للبردوني وظهوره قصة تشبه قصائده، (عميقة، ومؤثرة، وصادقة، ومأساوية ومدوية) وهو من شعراء العصر
الحديث، حيث ترك البردوني بصمة في سماء الشعر العربي. واخترت قصيدة (مصطفى) وطبقت عليها المنهج
السيميائي لعدة أسباب منها:
القصيدة مليئة بالرموز بدء من العنوان وانتهاء بالخاتمة، ولم أجد دراسة عنها بحسب ما طاله بحثي عنها في محركات البحث، واخترت المنهج السيميائي كإجراء يساعد في تفكيك شفرات النص المثخن بالرمزية بداية من
العنوان وانتهاء بالخاتمة النصية.
والمنهج السينيائي كما هو معلوم « علم العلامات» فكل دال له دلالة، وكل دال هو رمز أو مجموعة من الرموز، ولقد ساعدني في إخراج جماليات النص بلذة تفوق لذّة الشاعر بعد كتابة نصّه.
وميزة المناهج الحداثية أنها لا تعطي الحكم النهائي على نص ما، بل تترك باب التأويل مفتوحًا، فلا نهاية
جازمة له.
يقول رولان بارت: «العنوان نظام دلالي سيميولوجي يحمل في طياته قيّمًا أخلاقيّة واجتماعيّة وإيديولوجية» وهنا يحمل العنوان فائضًا دلاليًّا فمصطفى: من الصفو نقيض الكدر، اختاره كاصطفاه وعده صفيّا، صافاهُ: صدقه الإخاء، والمصطفى لقب النبي عليه أتم الصلاة والتّسليم، ولقد ورد في القران{إن الله اصطفى لكم الدّين} أي اختاره وفضله.
تعَرض الحبيب المصطفى للظلم وحُصِرَ وحاولوا الكفار أن يقتلوه لكنّه انتصر مع قلّة عدته وعتاده، أسقط البردوني اسم مصطفي وما يحمله من كل هذه الدّلالات على الإنسان الفقير، والمظلوم على (الإنسان) الذي يصارع الجبابرة عليه جبروتهم، وربما مصطفى هنا يصارع شخصا أو محتلا أو مجتمعا أو أفكارًا، هو فقير لا حول له ولا قوة لكنّه أشجع منهم فهو يملك القيّم الإنسانيّة يملك الكرامة ولن يموت الإنسان ما دامت كرامته لم تُمس، فإن مات بسبب ظلمهم فجذره أنمى لن يموت. وتشاكل العنوان مع النص تشاكلًا لفظيًّا، فلفظة (مصطفى) تكررت في النص، حيث فصّل في النص ما اختزله العنوان.
التّباين: قامت القصيدة على ثنائية الظالم /والمظلوم، الظالم/العبد الفقير الأعزل، برز التباين من خلال هذه الثّنائيات التي سيطرت على جلِّ مكونات هذا النّص.
باعتماد التّباين يقيم الشاعر تقابلًا دلاليًا بين ثنائية لقطية ترسم الصراع بين الظالم والمظلوم على نحو:
أبدى|أخفى، ليحشدوا (قوة)| أخوف، أغنى | أشقى، يخشون إمكان موتٍ | أنت للموت أألف، أوهى|أجلف، أرغد حلمًا | محياك أشظف، يكسرونك |تقوم أقوى وأرهف، يقتلونك | تأتي من أخر القتل أعصف، سيتلفون | ويزكو فيك الذي ليس يتلف، أقسى|ألطف.
توحي دلالة التّقابل إلى صراع ضمن حوارية سمة التّناقض، بين القوة والضعف، القوة الظاهرة الواهية التي تشبه بيت العنكبوت والقوة المتجذرة المتمثلة في القيم الإنسانية، يتحدث البردوني عن قوة هشة وظالمة لكنهم أخفى وأجبن، ولا يعملون إلا في الخفاء، ليحشدوا هذا دليل على قوة العدة والعتاد ولكنهم مع ذلك أجبن وأخوف، هم أغنى كغناء الطغاة ولكنهم رغم غناهم أشقياء، يخشون الموت ويخافون وأنت أيها الإنسان للموت آلف فلا تخشاه فالموت قادم لا محالة ولذلك هدفك أن تموت بشرف، يقتلونك ولكنك حيٌّ لا تموت فجذرك أنمى ينثال كفجأة الغيب وكالبراكين تزحف إلى أن يأتي اليوم الذي هو يومك، سيتلفون ويهلكون سوف يتلاشون كأنهم لم يكونوا وأحدك أنت ستزكو وتبقى ريحًا طيبة متجذرة، هم بالناس أقسى وأعنف ولا يتعاملون معهم إلا بلغة النّار ولكنك أنت ألطف بهم منهم.
ضم هذه السمات الدلاليّة المتباينة تصنع صراعًا وجوديًّا فهم (أبدى /وأقوى/ يكسرون/ ويقتلون/ وقساة /وموت) هذه قرائن دلالية موجبة تشترك مع قرائن سلبيّة أو متضادة فهم (أخفى/ وأجبن/ هو أرهف/ ويزكو /موتك حياة)، تشترك فيما بينها لتشكل حقلًا دلاليًّا تتعالق عناصره لتشكل لنا هذا الصراع بين الظالم والمظلوم، يربط بين هذه السمات ذات الشّاعر المؤمنة بقوة وشجاعة المظلوم هو أقوى من قوتهم الواهية أمام إصراره وكرامته فهذا المظلوم له مكانة عند الشاعر وشجاع باعتبار ما سيكون عليه وضعه وسيأتي زمانه ويمحو هذا الزمان المزيف.
الأيقونة: أيقونة بصريّة: سيتلفون/ (الهلاك والفساد، صورة لكل ما هو قابل للتلف والفساد من الأكل والحيوان وكل ميتة رديئة) فالجبابرة مصيرهم محتوم يهلكون لسوء صنيعهم يهلكون أنفسهم بأنفسهم نتيجة التجبّر والقتل بدون وجه حق.
من القش أضعف/ هذه المماثلة المتجسدة في القش وهو: (براعم أزهار صغيرة جدًّا) فهم على قوتهم إلا أنهم أضعف وأوهن من القش.
البراكين/ (هي بؤرة صغيرة قابلة للانفجار مع الزمن)، فهنالك اضطرابات كانت قبل تكوّن هذه البؤرة فظهورها يتكوّن بفعل الحرارة الشديدة، وتتكون فجوات صغيرة، إضافة إلى فجوة كبيرة هي المستودع تنطلق منه حمم بركانية نحو سطح الأرض، البراكين لا تنشأ إلا في الأرض الضعيفة أو الهشّة، فمصطفى كالبركان يزح ف لا يموت وسوف يأتي اليوم الذي ينتصر فيه.
تنثال/ الانثيال هو (السقوط الكثيف المتتابع) فهم يعتقدون موتك لكنك تنثال عليهم كفجأة الغيب.
كتاب/ مؤلف يتضمن صفحات، لماذا وصفه بالكتاب؟ ربما توحي هذه الدلالة بالأمل فعندما يقول كتابًا ينشأ في الذهن أنه الأمل، يخرج منه النّور والضياء، التجدد، النّهوض، الفكر النيّر، الإخاء، العدل، كل دلالات كلمة كتاب، والأمل الذي حمله البردوني تجاه المستقبل جعله يصف مصطفى بالكتاب
القميص المنتف: القميص لباس يغطي الجلد/ المنتف/ (قطع متفرقة أو شقوق في القميص)، دلالة على شدة فقره وحاجته ومع ذلك يُهاب ويخافون منه.
ملهى/ (مكان يقام فيه التّسلية واللعب) فبالقياس إلى تأويل الملهى في هذا النّص فهو شريفٌ لا يستطِع ولا يريد أي نوع من التّسلية فهو شخصيّة مناضلة مضحيّة دؤوبة.
نجم/ (عبارة عن جسم فلكي كروي يبرز ضوءه في ساعات متأخرة من الليل)، سبب اختيار النّجم والتّعبير عنه (ما قال نجم تراخى) فهو كما الصالحون لا ينام الليل كله فحتّى النّجم يعرف موعده الذي لا يتراخى ولا يتأخر عنه.
أيقونة سمعيّة: فليقصفوا/ (دوى فجأة وبشدة، صوت عنيف يشبه الرعد متكرر ومنقطع)
أعصف/ من العواصف، شدة الرياح العصف من كل شيء قوته وشدته، يقتلونه ولكن سيبقى لن يموت وسيأتي من أخر القتل أعصف يهلكهم. فليقذفوك/ (رمى بقوة وحقد وإصرار)، شدة القتل أو والنفي التي تمارس.
الخاتمة النّصيّة: إذا تأملنا هذه النّهاية وما فيها من أمل بأنه سيأتي زمن النصر سيأتي زمانك أيّها المظلوم وإن تأخر، في الخاتمة يأتي الشاعر برمز(الكتاب) الذي يجسد ويدل على القوة النّهوض وعلى الوعي والفكر المُنير لا الفكر الظلامي، إن نهاية القصيدة على عكس بدايتها نهاية متفائلة، ترقّب بأمل بأنه سيأتي زمانٌ يقضي على زمن الزيف والظلم والجهل.
القصيدة في بدايتها تثير الحماسة؛ حيث سيطرت عليها الحروف المجهورة لكن ختامها سيطرت لحروف والمهموسة (ز، س، ح، ز) تناقض مع افتتاحية القصيدة (فليقصفوا لست مقصف) سيطرت عليه الحروف القوية المجهورة، أما في نهاية القصيدة يشعر المتلقي بالرضا تهدأ الانفعالات بفعل زوال الطغيان والأمل في المستقبل هذه الانفعالات كانت سببا للإيقاع أيضًا.
استمعتُ إلى قصيدة (مصطفى) بلحنٍ يمني زاد جمالها، وعمّق معانيها، وجعلني أشعر بزهو عند سماعها، وفي الوقت نفسه ينتابني شعور بأنني لم أعطِ القصيدة حقها، وأتمنى أنه شعور المجتهد الباحث عن الكمال، كما أن ركن المقال لم يسمح لي أن أتوسع أكثر. وللبردوني قصائد تستحق الوقوف عندها طويلاً وطويلًا جدًا.
** ** ** ** ** ** ** ** ** **
مراجع المقال:
لسان العرب
معجم السيميائيات لفيصل الأحمر
شعرية عنوان كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق لمحمد الهادي المطوي
** **
- رحمة القرشي