حين أكتب عن الأستاذ حمد القاضي فأنا أكتب عن حضور استثنائي.. وأقصد بالاستثناء نموذجا مختلفا في تميزه عن غيره من المتميز المختلف.. فهو تميز الخيار من الخيار (فالمنشغلون بالفكر والثقافة والكلمة والمشتغلون بها كثر) إذا ما قيس إلى نموذج الاستثناء؛ لأن الأخير يختص بشيء أو أشياء لا تتوافر لجمهور المنشغلين والمشتغلين.. لذلك مثلا وصف الدكتور غازي القصيبي في تاريخنا الثقافي والأدبي بالاستثناء، كما وصف من قبله الأستاذ الرائد محمد حسين زيدان والشيخ العلامة علي الطنطاوي والدكتور طه حسين والدكتور مصطفى محمود رحمهم الله وغيرهم.
الذين يجمعون بين الأدب والكتابة والقراءة شريحة لا بأس بها من المشتغلين بالكتابة، لكن الذي يدخل إليها من بوابة التثقيف والتعليم أقل القليل، في الشريحة الأولى يكون اكتناز هذه الشريحة المشروعَ لذاتها، وجهدها الكبير لرمزيتها وحضورها، لذلك لا نبرح نسمع عن: البروج العاجية، ومنازل النخب، والمنصات الفوقية، وغيرها من النقدات والاتهامات تحيط بهذه الشريحة نتيجة للانفصال بينها وبين اليومي والإنسان البسيط، والمتلقي المتعلم حديث الاتصال بالمعرفة والفكر.. بل يصبح مركز قوتها سببا في استمرار تعاليها على خطابات التطوير والتنمية؛ لأنها يستعصي على (التفاعل) مع المجتمع والوسط.. غير أن أستاذنا حمد القاضي يقدم النموذج الأصعب والأكثر تعقيدا! نعم الأكثر تعقيدا.. تعقيد التركيب والوعي الذي يجمع بين نوعيته وقربه وقدرته على (التعاضي) مع النسيج الاجتماعي الحي؛ ليسري إليه وفيه فيمنحه من روحه وتجربته وقدرته ما يهيئه للانتقال والتطور، هنا تعقيد الوظيفة التي ينميها الوعي ويجعلها بلغة التراث وظيفة «مباركة»، وليس تعقيد الغموض وعسر التلقي!
فالقاضي لا يقف بالمعرفة ولا بالأدب ولا برمزية الثقافة والكتابة عند حدود بناء الذات وتأثيث رمزيتها؛ وقد حاز كلّ ممكناتها لو أراد.. ولكنه سخر كل هذه الممكنات ليتجاوز الهم الذاتي/ الفردي إلى هموم اجتماعية جعلها مسؤوليته في ممارساته الثقافية وخيارته العملية والاجتماعية.. فاقترنت أنشطته الثقافية كما اقترنت الكتابة بالتعليم بمفهومه الاجتماعي الواسع! وأي مهمة هي أزكى من مهمة التعليم.. وهو بهذا يسد الفجوة الكبيرة بين التعليم المدرسي المؤسسي وبين التعليم في صورته المقترنة بالواقع، وتحويل المعرفة والجماليات إلى روح عام وتعاط شعبي ويومي.. وذلك لا يكون إلا بتقديمه ذاته الاجتماعية في سياقها الوطني الكبير، وتطمينه للناشز، وتسكينه للنافر عبر استراتيجيتيّ: التواصل الحميمي، والعفوية التشاركية حتى قبل تبلورها مع ظهور الثورة المعلوماتية والرقمية...
هذا إلى ما حبا الله به الأستاذ حمد القاضي من خلق كريم، ونبل وإنسانية وإنصاف، فهو ممن يألف ويؤلف فمجالسه أنيسة بطيبة النفس، وعذوبة حديثه، وثمين ما يحكيه عن علاقاته وتجربته وذكرياته، ويزيد في عينيك عظمة واحتراما عند لقياه؛ وإننا نعرف من أنفسنا وتجاربنا شخصيات فتنا بها ردحا من الزمن فلما التقيناها كان لقاؤنا حجابا يعصمنا عنها، وينأى بنا عن استمراء القراءة لها وتلقف نتاجها..
هذا في ظني هو تميز القاضي! وهذا هو «حصيلة مشواره» في الإعداد الذاتي، والإدارة والكتابة والإعلام، في تحرير المجلة العربية واسعة الانتشار، وفي تجربة الطباعة والنشر... إلخ كلها تأتي من هذه الأيقونة الخصيبة في تركيزها ووظيفتها..
الأستاذ حمد القاضي..
الرائد الذي اختار أن يسير بين أهله؛ ليقرب إليهم حصتهم من الكتابة، ويصلهم بعالم النخبة، ويقتطع لهم صولجان القلم وسلطة الكلمة المنتمية لهم..
الأستاذ حمد القاضي.. مدرسة مختلفة! والاحتفال به.. وبمنجزه وسيرته الثقافية احتفال بتاريخ من الوطنية والإنسانية، واحتفاء برمز انتصر للكلمة الطيبة، وللقيم الأصيلة الباسقة..
** **
د. أحمد بن علي آل مريع - رئيس أدبي أبها - الأستاذ بجامعة الملك خالد