ظهرت نظرية الفوائت الظنية قبل عشر سنوات في نشاطي المعجمي في مجمع اللغة الافتراضي، فاقترحت هذا المصطلح اللغوي ليدلّ على الألفاظ اللهجية الدارجة في بلاد المنبع، ولم تذكرها المعاجم العربية، وقد ذكرتُ في كتابي فوائت المعاجم الأدلة النقلية والأدلة العقلية التي تثبت أن معاجمنا ناقصة وأنها لم ترصد اللغة كلها، وأنه فاتها كثير من المفردات لم تزل بقايا منها جارية على ألسنة كبار السن في بلادنا السعودية منبع العربية، ورصدها واجب قبل اندثارها الوشيك، ورصدت منها في عشر سنوات نحو 4000 كلمة ولم أزل أتطلع إلى المزيد.
وللفوائت الظنية شروط أو ضوابط، وهي سبعة: ثلاثة لازمة، وأربعة مساعدة ومرجّحة، ولا يوصف اللفظ أو الدلالة بالفوات الظني إلا بتحقّق الشروط الثلاثة اللازمة على الأقل.
* الشروط اللازمة:
الشرط الأول: تحقق المعيار اللفظي:
وأعني به بناءَ الكلمة في أصواتها وصرفها، فيجب أن توافق ما جاء في كلام العرب زمنَ الفصاحة، أصواتًا وصرفًا، والباحثُ اللغويُّ يدركُ السبكَ العربيَّ الفصيح، ويدركُ أيضا ما يلحقُ باللهجات من تغييراتٍ عامّيّةٍ تؤثّر في تصريف كلامهم في كثيرٍ من ألفاظهم الفصيحة، ويسعه ردُّها إلى أصلها البنائيّ بيسرٍ، وكان علماؤنا يأنسون بالمشابهة، وربما قبلوا لفظا أو ردّوه لهذا، وهذا ابن فارس يرد لفظا، ويقول في العلّة: لأنّه لا يُشبه كلام العرب، وقال في موضع آخر: وهذا لا يُشبِهُ كلامَ العَرَب.
فمن ذلك كلمة: (الخَشِير بمعنى الشريك) و(ارتبش) على وزن افتعل بمعنى اضطرب، فإنّ حروفَهما تشير إلى أنهما من حاقِّ كلام العرب، فهي عربية الصوت والبنية.
وكذلك (عَرَشَ العظم) إذا أخذ عظم الذبيحة بيديه ونهس بقايا اللحم عليه بأسنانه، وكذلك اعترشه، وعرمشه، وهذا الأخير مفكوك من عرّش، بقلب ثاني المثلين راء، وللفكّ نظائر في كلام العرب.
ومنه قولُهم: الجُغّمة مقلوب الغُمجة، وقولهم: ادْمَحْ الزَّلّة، وادْمَحْ زَلِّتي، وفلان يدمحُ الزلة؛ أي: يُغضي عن الخطأ في حقّه. وفي المعاجم دَمَّحَ الرجلُ رأسَه طأطأ وانحنى.. والصلةُ بين المعنى اللهجيِّ هذا والمعنى الأصليِّ واضحة؛ لأنّ من يَدمَحُ الزّلّةَ ويُسامحُ عليها كمن يَحني ظهرَه ويُرخي رأسَه، تساهلا وإغضاءً عن زَلّة صاحبه.
الشرط الثاني: تحقق المعيار الدلالي:
وهو أن تكون دلالةُ اللفظ مما يألفه العرب ويصلح لحياتهم في أزمانِ الفصاحة، فإن كانتِ الدلالةُ لشيءٍ حادثٍ في العصورِ المتأخرة مما جدّ في الحياةِ عُرفَ أنها دلالةٌ محدثة، وأنها ليست من فوائتِ المعاجمِ القديمة، ومن ذلك (المُقمّع) اسم نوع من البنادق، اللفظ عربي صحيح الاشتقاق، ولكن المدلول حديث، إذ ظهرت البنادق في عصرنا، وكذلك (الزَّفّة) وهو الماء المجلوب في تنكتين معلّقتين بطرفي عصا أو خشبة توضع على كتف رجل يحملها، وهي من أساليب السقي التي ظهرت في العصر العثماني في مدن الحجاز وغيرها.
وحينَ نُنعمُ النظرَ في الأمثلةِ المذكورة في المعيار الأول: (الجُغْمة والخشير وارتبش وعَرَشَ العظم وعرمشه ويدمحُ الزلة) نجدُ أن الدلالةَ صالحة لما يألفُه العربُ في حياتِهم اليومية، وليستْ دلالةً حادثةً بعدَ أزمانِ الفصاحة.
الشرط الثالث: تحقق المعيار الجغرافي أو الأطلس الجغرافي:
وأعني به بيئةَ اللهجة، فحينَ تكون اللهجة واسعةَ الانتشار معروفةً في عددٍ من القبائل المتفرّقة فإنّ ذلك يرجّح فصاحتها مع الأخذ بالمقياسين السابقين، فكلماتٌ مثل (الخَشِير والجُغْمة وعَرَشَ العظم وعَرْمَشه ويَدْمَحُ الزلة) منتشرةٌ بينَ قبائل الجزيرة وبيئاتها، وكذلك الفعل (ارتبش) واسع الانتشار في قبائل عديدة في بلاد المنبع اللغوي وما جاورها.
فإن كانتِ الكلمة محصورةً في قبيلةٍ أو بيئةٍ واحدةٍ فحسب دعا ذلك إلى التريّث قبلَ الحكم بأنها من فوائت المعاجم، مع أنّ علماءنا المتقدّمين أثبتوا في معاجمهم ما يُسمعُ من قبيلةٍ واحدة أو من شاعر واحد، لكننا في مقامِ احتراز، فيحسنُ التشدّدُ هنا؛ لأنّ أمرَ الفوائتِ ظنيّ.
فكلماتٌ مثل: الجُغمة، والخَشير، وارْتَبَشَ فهو مرتَبِش، ويدمَحُ الزّلّة، والرَّهْوة: المكانُ المرتفع، والشَّرْوَى وشرواك؛ أي: مثيلُك، وأزْرَيتُ بمعنى عجَزْتُ عن فعلِ شيء، والهَمْطُ وهو الهذرُ في الكلام، وانحاشَ بمعنى هربَ وولّى، وارجَهَنّ بمعنى جلسَ وسكن، والعَزْقُ بمعنى التضييق، ومُتَحَشِّد؛ أي: مُستحٍ؛ هي مما ينتشر بينَ قبائل الجزيرة وبيئاتها.
وأنبّهُ على أمر مهم وهو أن القطعَ أو الجزمَ بالفوات أمرٌ لا سبيلَ إليه ما لم نجدْ شاهدًا قديما، ولكنَّ هذه المقاييسَ الثلاثةَ هي للتقريب والترجيحِ، فحينَ نقول إن هذه الكلمةَ من الفوائت الظّنّيّة، يعني هذا القول غلبةَ الظنّ بأنها من الفوائت؛ لتعذّر القطع بالفائت بغير شاهد.
* الضوابط المساعدة المرجّحة:
1- اللهجات المهاجرة، وأعني بهذا أنْ تؤكّد لهجة مهاجرة لفظةً أو دلالةً فتوافق الفروعُ الأصولَ؛ أي: توافق ما في أصولها في جزيرة العرب، وهذا يحدث في لغات القبائل المهاجرة من المشرق إلى المغرب العربي إبّان الهجرات الأولى في زمن الفتوحات، وما أعقبه من موجات للهجرة والاستقرار هناك، فيدلّ اتّفاق الفرع والأصل على قدم الكلمة أو الدلالة، لأنّها وصلت إلى لغات المغاربة منذ زمن مبكّر مع القبائل التي هاجرت إلى تلك الديار أيّام الفتوحات الإسلاميّة أو في الهجرات المتعاقبة لقبائل من سُليم وهُذيل وتميم استوطنت الشَّمال الإفريقي، ومن آخرها تغريبة بني هلال، فالتّوافق يشير إلى قِدَم اللفظ أو المعنى، وأنّه يرجع إلى أيام الفصاحة؛ لأنّ استعماله -في الغالب- كان شائعًا قبل نزوح تلك القبائل إلى المغرب العربيّ بزمن يكفي لشيوعه وتمسّك المهاجرين والباقين في ديارهم به، ليبقى راسخًا حيًّا في البيئتين على الرُّغم من تباعدهما وشبه انقطاع الصّلة بينهما في القرون الماضية، مما يجعلنا نطمئنّ كثيرًا إلى قدم اللفظ عند تحقّق هذا المعيار الرّابع إلى جنب المعايير الثلاثة الرئيسة اللازمة.
2- نظريّة الاشتقاق الأكبر عند ابن جِنّي، وهي تعين في الحكم بالفوات الظنّيّ، وكان ابن جنّي وشيخه أبو عليّ الفارسي يستعينان بالاشتقاق الأكبر (التقليبات) ويخلدان إليه, مع إعواز الاشتقاق الأصغر في مواضع، ومن ذلك البحث عن المعنى العامّ للتقليبات السّتّة للثلاثيّ، وكذلك محاولة الكشف بالتقليب عن حقيقة ما خفي من حروف العلة، كاستدلاله بأنّ لام الشظا واوٌ لا ياء. ولنا أيضا أن نستدلّ بهذا الاشتقاق الأكبر على صحّة السّماع في لهجاتنا، وهذا موضع دقيق ونفيس جدا. فالمعاني العامّة المرتبطة بتقليبات الجذر هي معانٍ أحفوريّة قديمة، درستْ في كثير من التقليبات، ومع تلك الصعوبة يمكن الأُنسُ بهذا المعيار متى أمكن الوصول إليه. وحين نجد معاني الجذور (التقليبات) دائرةً حول معنى واحد، كلها أو المستعمل منها، فإنّ هذا يفيد بأنّ ما يتّفق مع هذا المعنى مما نجده في لهجاتنا ولا نجده في المعاجم مما تحققت فيه الشروط الثلاثة هو من الفوائت الظنّيّة، التي عزّزها هذا المعيار (نظريّة الاشتقاق الأكبر).
3- الاستئناس بنظرية ثنائية الجذر، وهي النظريّة القائلة بأنّ اللغة مرّت في مرحلة من مراحل تطورها بالثنائية؛ أي: كانت ثنائية الجذور، ثم تطوّرت إلى الثلاثيّة والرّباعيّة والخماسيّة، ومن ذلك أنّ الأصل الثنائي (غَمْ) تدور دلالته الأصليّة حول السّتر والتّغطية بالماء، وسيل الماء وجرعه، فيفكّ تضعيف الثلاثيّ المضعف منه وهو (غمَّ) فتنشأ جذور ثلاثيّة تحمل المعنى الأصليّ مع تنويع طفيف في الدلالة يختصّ به كلّ أصل منها ويميزه عن غيره، وهي: غمْ - غمّ ) غمت ) غمج ) غمد ) غمر ) غمز ) غمس ) غمص (غمصتِ العينُ: سال غمصها) غمض ) غمل ) غمن ) غمو ) غمي.
4- الاستئناس باللغات العروبية (اللغات السامية) لتأصيل لفظ لهجيّ غير مُمعجم مما يكون لفظه ومعناه أو بعضه في لغة من اللغات الساميّة، مع توفّر شروط الفوائت الظنّيّة الرئيسة الثلاثة، فالعروبيّات (الساميات) متقاربة، لتفرّعها من أصل واحد قديم، وثمة ألفاظ فاتت المعاجم ولم تزل حيّة في موروثنا اللهجيّ في جزيرة العرب، وهي من بقايا مشتركٍ عروبيّ قديم، وقد يموت اللفظ في بعض العروبيّات ويبقى حيًّا في بعضها، وقد ذكرت أمثلة من هذا النوع في كتابي: فوائت المعاجم.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي