أخي الحبيب وصديقي العزيز الأستاذ علي السعلي لم يوافقني الرأي حين قلت: إنّ عددًا كبيرًا من الكُتّاب الممارسين للأعمال الكتابيّة على اختلاف أنواعها، ورغم وجودهم على السّاحة الثقافيّة وتغنّي البعض بهم، يفتقرون إلى الموهبة؛ ما دعاه إلى تخصيص مقالٍ كاملٍ عنونه «الوصايا الخمس»، فنّد من خلاله هذه «الفرية» وردّ عليها... بالطبع لا تثريب عليه في ذلك، إذ إنّ كثيرين يخلطون بين الموهبة والإتقان، معتبرين أنَّ كلَّ بارعٍ في مجالٍ معيّن يُعَدُّ موهوبًا، وذلك استنادًا إلى تعريف العالِم لايكوك للموهبة عام 1957م القائل: «إنّ الموهوب هو ذلك الفرد الذي يكون أداؤه عاليًا بدرجة ملحوظة بصفة دائمة في مجالات الموسيقى أو الفنون أو القيادة الاجتماعيّة أو الأشكال الأخرى من التعبير». وتبعًا لهذا الوصف البسيط فإنّ لاعب كرة القدم إذا كان متمكِّنًا من أساسيّات اللعبة ويُحسن أداءها عُدَّ في نظر هؤلاء موهوبًا، وكذلك يُعتَبَر العازف على إحدى الآلات الموسيقيّة موهوبًا إن كان متقنًا للعزف... ويمكن القياس على ذلك في ما يتعلّق بالأدب، فكلُّ بارع في مجال الكتابة على اختلاف أجناسها يسمّى موهوبًا دون الدخول في أيّة تفاصيل أخرى. إلّا أنّ العلم الحديث الذي تطوّر كثيرًا في العقود الأخيرة، تجاوز هذا التعريف المبسّط، إذ توصّل إلى نتائج تؤكّد أنّ هؤلاء الممارسين لا يمكن وصفهم بالموهوبين ما لم يتوفّر لديهم عدد من الأمور التي حدّدها علماء النفس بعدما أجروا عليها الكثير من الأبحاث والتجارب. هذا الأمر يدفعنا إلى التساؤل عن ماهيّة الموهبة، والأسس العلميّة لتعريفها، والتي يمكنها أن ترشدنا إلى الشخص الموهوب.
قد يكون تعريف رينزولي للموهبة من أشهر ما توصّل إليه علماء النفس في هذا الخصوص، ويُعرف بـ «نموذج رينزولي الثلاثيّ الحلقات»، وفيه يستنتج عالم النفس الأمريكي المعاصر «Joseph Renzulli» أنّ الموهبة هي تفاعل بين ثلاث قدرات إنسانيّة، يتعلّق أوّل هذه القدرات بالمهارة التي يتقنها (أكانت عقليّة أم جسديّة أو كلاهما معًا) واشترط لها أن تكون فوق المتوسّط «Above Average Ability»، والقدرة الثانية عرّفها بـ «Task Commitment» ويعني بها الدافعيّة والمثابرة - وإن كنت أميل إلى ترجمتها الحرفيّة بالقول إنّها القدرة العالية على الالتزام بالمَهمّة والحرص على إتقانها - وأخيرًا تأتي القدرة العالية على الإبداع «Creativity». خلاصة القول، إنّ رينزولي يرى أنّ الموهوب يمتلك مهارة معيّنة، بدرجة إتقان فوق المتوسِّط، بالإضافة إلى امتلاكه الدافعيّة التي تحضّه على الالتزام والنهوض بمتطلّباتها بدرجة عالية جدًّا، كما يمتلك القدرة على الابتكار وحلّ المشكلات، إضافة إلى التجديد في طريقة أدائه لهذه المَهمّة.
هذا التعريف الإبداعيّ للموهبة يقودنا إلى تعريف آخر أكثر دقّة، أتى به عالم النفس الأمريكي المعاصر «Robert Sternberg»، وهو لا يختلف كثيرًا عن نظام رينزولي، إذ يرى ستيرنبيرغ أنّ الموهبة هي تضافر أكثر من عامل في تحقيق السلوك الذي يمكن وسمه بالموهبة؛ واشترط في نظريّته المعروفة بـ «Triarchic theory of intelligence» وجود ثلاث قدرات على مستوى عال، أوّلها: الذكاء المنطقي أو الذكاء التحليلي «Analytic Intelligence» ويعني به القدرة على التحليل وإصدار الأحكام والنقد والمقارنة والتقييم، كما أنّ البعض يفسّرها بأنّها القدرة على إنجاز المطلوب بدرجة عالية من الإتقان، ولكن دون أيّ ابتكار أو إبداع أو زيادة أو نقصان في الأسلوب المعتاد الذي تعلّمه من أستاذه، وهو ما يجعل الأداء يفتقر إلى العمق والتجديد، فيمكن وصفه بالتقليد المتقن الذي يبرع فيه كثير من الممارسين. ثانيًا: قدرة الذكاء الإبداعي «Creativity Intelligence»، ويعني به الخروج بحلول مبتكرة، وذلك من خلال القدرة على الربط بين الأفكار التي تبدو في ظاهرها متناقضة أو متباعدة، والإتيان بأفكار جديدة قد نراها غير منطقيّة، لكنّها تشير بوضوح إلى قدرة صاحبها على الابتكار والتجديد؛ هذا النوع من الذكاء يعتبره ستيرنبيرغ أساسيًّا للحكم على وجود الموهبة. ثالثًا وأخيرًا يأتي الذكاء التطبيقي «Practical Intelligence» ويعني به القدرة على استخدام الذكاء المنطقي والإبداعي في مواقف حيّة، أو لنقل استخدام المعلومات النظريّة في المواقف الحياتيّة المختلفة لتحقيق النجاح المطلوب.
كما هو معلوم، إنّ معظم الناس لديهم مزيج من هذه القدرات الثلاث بنسب متفاوتة، ولكن ما يصنع الموهبة -برأي ستيرنبيرغ- هو وجود هذه القدرات الثلاث بنسب عالية لدى الفرد، مع القدرة على استخدام أيًّ منها في الزمان والمكان المناسبين، أي أنّ الموهبة تكمن في القدرة على الإدارة المتوازنة لهذه القدرات الثلاث بفاعليّة عالية.
بالتأكيد هناك آراء متعدّدة في هذا الشأن، منها النموذج الخماسي للموهبة الذي وضعه العالم ستيرنبيرغ، وكان الهدف منه الحكم على الموهوب من خلال خمس محكّات، هي: «الامتياز والندرة والإنتاجيّة والإثبات والقيمة» والتي على أساسها يمكن إصدار رأي قطعيّ في وجود الموهبة من عدمها... المجال بالطبع لا يتّسع للحديث عن كلّ هذه النظريّات التي يُشترط إلمامنا بها معرفةً وفهمًا وتنزيلاً، حتّى نتمكّن من اكتشاف الموهوبين والتفريق بينهم وبين الممارسين المتقنين لأعمالهم.
إنّ ذلك يقودنا إلى قبول الحقيقة المُرّة التي رفضها الأستاذ «علي»، وهي أنّنا في وقتنا الراهن في نتاجنا الأدبيّ بجميع أجناسه، وفي مجمل أنشطتنا الحياتيّة تقريبًا، نفتقد المواهب أو الموهبة التي يختصّ بها عدد قليل من البشر على مرّ العصور، أمثال الكاتب الكبير أنيس منصور والمفكِّر الذائع الصّيت الدكتور مصطفى محمود اللذين يشكّلان مثالاً حيًّا لنظريّة كلٍّ من رينزولي وستيرنبيرغ، وكذلك تلك النماذج المحلّيّة الرائعة من أمثال عزيز ضياء، والمفكّر العظيم محمّد حسين زيدان، والشيخ علي الطنطاوي -رحمهم الله جميعًا- وهو ما أظنّه تحقّق على سبيل المثال لا الحصر، في إبراهيم أصلان -رحمه الله- من خلال كتابه «خلوة الغلبان»، حيث أظهر براعة في السرد، وقدرة على التحليل والاستقراء والاستنباط، وكان خلّاقًا مبدعًا في ابتكاره لزوايا رؤية لم يتنبّه إليها غيره، واستطاع ببراعة تحويل السيرة الذاتيّة الحقيقيّة إلى سرديّة تخيُّليّة بامتياز، ووظّفَ مهاراته الكتابيّة في تشريح الواقع، والحديث عنه بأسلوب مبتكر، وبعمق كبير، ما جعل كتابته خالدة.
لقد عزّز من هذا الألق لدى أولئك المبدعين، وجود دافعيّة كبيرة شكّلتها البيئة المحيطة التي لم تكن تقبل بأقلّ من ذلك، وهو ما جعلهم يحفرون في الصّخر لتحقيق أحلامهم وصنع تاريخهم وتاريخ بلدانهم. من هؤلاء أيضًا الكاتب الإنسانيّ «صاحب القلم الرحيم» الصّحافي عبدالوهاب مطاوع -رحمه الله- الذي برع في كتابة المقال الاجتماعي، وتخصّص في ما يُطلق عليه اسم أدب الرسائل، فحقّ له أن يُعَدَّ موهوبًا في هذا الشأن، حتّى أنّ كتابه الذي جمع فيه بعض مقالاته وعنونه بـ «صديقي لا تأكل نفسك» يُعتبَر من الكتب المهمّة التي ما زالت تُقرأ حتّى اليوم؛ تحضرني هنا مقولة عظيمة لهذا الرجل، تتعلّق بمحكّات الموهبة «الإنتاجيّة»، ذكرها في المقال الرئيس الذي عنون به الكتاب حين قال: «إنّ من نِعَم الله على البشريّة أنّ العقّاد لم يُكمل تعليمه وإلّا لكان موظّفًا في أحد الدوائر الخدميّة أو مديرًا لإدارتها في أحسن أحواله ولم يترك للعالم هذا الإرث العظيم من الأدب». وقال ما يشبه ذلك أيضًا عن بيتهوفن وطه حسين. ومن هؤلاء الأساطير المعاصرين -في ظنّي- الكاتب والصحافي السعودي عبدالله باهيثم -رحمه الله- الذي برع في كتابة مقال القصّة، وكان موهوبًا ومتفرِّدًا في هذا الشأن فترك إرثًا أدبيًّا لن يُنسى، ويستحقّ جمعه في كتاب، ولعلّ «صحيفة البلاد» تُبادر إلى تبنّي هذا المشروع أو «النادي الأدبي» في جدّة.
هذه المواصفات الفريدة التي خلقت لنا تلكم النماذج الرائعة، لم نعد نراها اليوم بذاك الوضوح في عدد كبير ممّن حملوا لواء القلم، مدّعين ما ليس فيهم... لا ننكر أنّ بينهم من يبرع في بعض الأجناس الأدبيّة، وله بصمته، ولكنّ التكامل الذي تستهدفه الموهبة هو ما نفتقده حاليًّا، الأمر الذي يدفعني إلى أن أضيف إلى ما قاله السعلي، فأقول: إنّنا، كتّابًا ونقّادًا، نحتاج أيضًا إلى الإيمان بأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره، وهي الوصيّة السادسة التي أُلزم بها نفسي.
** **
- حامد أحمد الشريف