سهام القحطاني
ما يلبث مصطلح «الإبراهيمية» من فترة إلى أخرى بالسطوع من زوايا مختلفة فيثير عاصفة من الجدل من حيث المقصد والغاية، جدل يُحيط ذلك المصطلح بالتوجس مما يضمره من نوايا سوداء ستجر مجتمعات الشرق الأوسط إلى أخدود لا تنطفئ ناره وتجردها من مصدر قوتها «دينها الخاص» لدين ينتمي إلى الطرف الثقافي أكثر من العقدي، توجس بأن تغلب قوة السياسة والسلاح قوة الدين.
جدل يحيط ذلك المصطلح باحتمالات المؤامرة لتحقيق الاندماج الكلي وإلغاء الخصوصيات ليسيطر الأقوى الذي يملك قوة الكيف لا قوة الكم، ويحول الكم إلى توابع صامتة.
ويرى آخر أن الإبراهيمية هي «حق» يُريد بها «باطلا»؛ فإبراهيم عليه السلام هو «أبو الأنبياء» الذين أسسوا للديانات الثلاث الرئيسية «اليهودية والمسيحية والإسلامية»، هذه الديانات التي تنطلق من «ملة إبراهيم» «جوهر العبادة الخالصة» التي لا تخضع لتفاصيل المنهج والتشريعات، وبالتالي فإن الإبراهيمية هي عقيدة قائمة على «قيمة الكلية» لا «قيمة التفاصيل».
والإيمان بظلها يعني إلغاء التفاصيل التي يكمن بها الشيطان، وهو ما يعني أن إزالة الفروق التشريعية بين الأديان الثلاثة تحت مظلة الإبراهيمية هو الحلّ الأسلم لتخلص المجتمعات من التطرف الديني وما يتبعه من فكر وسلوك إرهابي قائم على المفاضلة بين الأديان.
وأعتقد أن النظر للإبراهيمية من خلال هذه الزاوية فقط هو نظر قاصر سواء في المفهوم العام أو الخاص، فالمسألة هي أبعد من إعادة إنسان الشرق الأوسطي إلى جوهر ملته والاكتفاء بقيمة الكلية بدلاً من قيمة التفاصيل.
كان البعض يعتقد أن «العولمة» وتحويل «العالم إلى قرية واحدة» كفيلة بصهر المجتمعات الدينية في بوتقة واحدة وإلغاء الخصوصية الدينية لتحلّ محلها ثقافة العولمة، لكن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول اكتشف العالم فشل العولمة في تجريد المجتمعات الدينية من خصوصيتها العقدية وإعادة تكوينها وفق المشترك الثقافي الذي راهنت عليه عبر تلك العولمة، ليظل الدين هو البطل المنتصر دوما، وهذا ما صرح به «برنارد لويس» بعد الحادي عشر من أيلول عندما قال: «إن فشل الأمركة في المجتمعات العربية المسلمة نشأت بسبب عيوب تلك المجتمعات وليس بسبب أمريكا».
و»برنارد لويس» من أكثر المستشرقين الغرب الذين درسوا المجتمعات العربية والإسلامية، ولذا كان يعلم أن الدين في تلك المجتمعات قوة راسخة لا يُمكن محاربته أو تفكيكه أو استبداله بصيغ أيديولوجية أخرى أو انتماءات فكرية أو ولائية، كما قال صاحب النظرية الأخطر في القرن العشرين «صدام الحضارات عام 1990م، والذي زعم فيها أن العرب والمسلمين أمة فاسدة وفوضوية إرهابية لا يمكن تحضرهم وهم دوما خطر على الحضارات.
إذن ظل الدين الإسلامي مصدر قلق عند صنّاع النظريات الفكرية الغربية والأمريكية كونه القوة الحقيقية للمجتمعات العربية والإسلامية التي لا تُقهر نعم قد تضعف لكنها لا تُهزم، قوة لديها قدرة خاصة على تجديد طاقتها كل مرة.
ولذا كان لا بدّ من تغيّر زاوية الرؤية للدين الإسلامي، وفي مطلع القرن الواحد والعشرين بدأ اختلاف زاوية تلك الرؤية يطل برأسه من خلال مصطلح الإبراهيمية.
هذا المصطلح المبني على إبقاء الدين كمصدر انتماء مجتمعات الشرق الأوسطية كونها المجتمعات التي تمثل الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلام، في ظل دمج هذه الأديان لإعادتها إلى مصدرها الأساسي «الملة» ملة إبراهيم كرمز «لجوهر الدين الخالص دون تفاصيل تشريعات» تلك التفاصيل التي كانت مصدر خلاف بين الأديان السماوية ومعايير الصدق والإلغاء والمفاضلة والكفر والإيمان، وهي معايير كانت ولا تزال مصدر التطرف والإرهاب.
إن فكرة الإيمان والكفر مرتبطة في المجتمعات الدينية الشرق أوسطية «بتفاصيل التشريعات الخاصة بالدين الوصفي» -الإسلام، المسيحية، اليهودية-، لكن متى ما تجردت تلك التشريعات من خصوصيتها الوصفية وتخلصت من قيمة «التفاصيل والتفاضل» إلى «قيمة الكلية» تساوى الناس في نوع الدين، وبذلك سيصبح الجميع «دينيين دون تشريع» لتحلّ القوانين المدنية محلّ تلك التشريعات باعتبار القانون «إلهاً أعم أصم» لا يفرق وفق الدين بل وفق نوع الفعل ووصفه وآثره على الآخر.
والحاصل في النهاية كما قال الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب عند مباركته للتطبيع بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة «للدفع بثقافة سلام بين الديانات الإبراهيمية الثلاث والإنسانية جمعاء»، بل وسمى ذلك الاتفاق بالاتفاق الإبراهيمي.
وهو ما دفع الكثير من المراقبين والمثقفين والمفكرين إلى الربط بين «حركة هذا المصطلح والدهاليز السياسية» ومخططاتها لمجتمعات الشرق الأوسطية التي تُرسخ تحت الطاولات.
وردة الفعل حول ما بين السطور سواء تأييدا وتبشيرا، ومدى إمكانية تحقق الاندماج وقدرته على نزع التطرف والإرهاب من مجتمعات الشرق الأوسط، أو رفضا وتوجسا بأن تتحول مجتمعات الشرق الأوسط كبش محرقة للعهد الجديد.
لقد انقسم المقيّمون لمصطلح الإبراهيمية إلى قسمين؛ والأكثرون يرون أن غموضها يطغى على وضوحها وأنها مفسدة للمجتمعات، وإنها الفتنة النائمة لعن الله من يوقظها، وأنها كما يقول الباحث في العهد القديم «كيرلس بشرى» بجامعة «فيينا بالنمسا» بأن الإبراهيمية كديانة هي مجرد «فانتازيا خيالية».