د. إبراهيم بن محمد الشتوي
في الحكاية المشهورة أن ابن عباس دخل الحرم محرماً، وهو ينشد قول الشاعر:
إن تصدق الطير ... لميسا
الكلمة المحذوفة هي الكلمة المعروفة التي يستعملها الناس لغشيان الرجل المرأة، فقال من معه: رفثت يا ابن عم رسول الله. فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.
الرفث كما في اللغة وكما يقول كثير من المفسرين: هو الكلام الفاحش، وهذا يعني أن المعنى اللغوي والاصطلاحي واحد، وهو الكلام الفاحش، بيد أنه في الإحرام مذموم لأنه ينقص من أجر الحاج أو المعتمر، أما في غيره فبحسب الموقف المستدعى.
إلا أن الأمر اللافت للانتباه هنا هو تفريق ابن عباس في تحديد الأثر المعنوي للكلام بين أن يكون بين النساء أو الرجال، فإذا كان بين النساء أخذ حكماً معيناً، وإذا كان بين الرجال أخذ حكماً آخر.
وفي القول المشهور أن ابن عباس لا يرى ما قيل بين الرجال من الفحش رفثاً لأنه لا يثير شيئاً ولا يؤدي إلى شيء، في حين أنه يفعل ذلك عند النساء، ولأن ذلك من نواقض الحج فإنه غير مرغوب فيه.
والمشكلة أنه هنا لا يحدد المعنى، المعنى واحد، وإنما يحدد أثر الكلام، أو قيمة الكلام في الحكم الشرعي، وهذا قد يحيلنا مرة أخرى إلى المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي الذي يختلف فيه المعنى بين موضع وآخر، بين أن يكون دالاً على معنى بسيط في حالة وفي معنى معقد مركب في حالة أخرى، أو لا يكون دالاً على شيء في حال، ويدل على معنى مركب في حال أخرى.
إلا أن الذي يجعلنا لا نجزم بهذا القول هو أننا لا نعلم إن كان ابن عباس يرى أن هذا الكلام لا يعد من الفحش منذ البدء حين يقال بين الرجال، وإنما هو كلام من الكلام، وهذا يعني أن هذا النوع من الكلام له ثلاث حالات: الأولى ألا يعد فحشاً إذا قيل عند الرجال، وهذا يفهم من المعنى العام لكلمة «الرفث» التي نفاها عنه ابن عباس، والثاني: أن يكون «رفثاً» أي فحشاً، وهو عندما يقال عند النساء، والثالث: أن يكون «رفثاً» ومما لا ينبغي أن يقال، وهذا في الحج.
ربما يكون المعنى الثالث اصطلاحياً على طريقة الفقهاء، مع أنني لا أميل إلى ذلك، بناء على أنه معنى بسيط وليس مركباً ولا يختلف حاله إلا أن يكون في زمن محدد، في حين أنه لم يختلف معناه وإنما اختلف حكمه الشرعي أي أثره على الحج، فهو رفث سواء كان في الحج أم سواه، لكنه في الحج يكون محرماً، وهذا يجعله أمراً مغايراً عن المعنى الاصطلاحي التقليدي، ما يخرجه عن هذا المفهوم.
من وجهة نظري أن المسألة تتصل بـ»السياق»، فهذه المعاني الثلاث تتصل بالسياق المحيط به، ففي المرة الأولى كان الحديث بين الرجال فلم يكن رفثاً أي فحشاً لأن الرفث تعني الفحش، والثانية كان بين النساء فصار فحشاً، والثالثة صار بين النساء وفي الحج فصار محرماً.
إلا أن معنى هذه الكلمات لا يختلف في كل مرة عن الأخرى، فهو يظل دالاً على معنى واحد، وهو المعنى الحرفي للفحش، إلا أن الموقف منه بين أن يكون ذا قيمة معنوية محددة (ولا أقول معيباً) يتصل بأن يكون بين النساء، وهذا معنى إضافي إلى المعنى الأصلي، وهو أن يأخذ قيمة معينة ينبني عليها حكم أخلاقي أو ذوقي يوصف بالمدح أو الذم....
إلا أن السؤال الحاضر الآن، هو أنه إذا كان الكلام بين الرجال ليس فحشاً، فهل يعني أنه لم يعد قبيحاً، وهذا يبعث السؤال مرة أخرى عن ارتباط القبح بالفحش، فإذا كان فحشاً فهل هو بالضرورة قبيح؟ يبدو أن كلمة «الفحش» تأخذ أكثر من معنى بعضها مرتبط بالقبح والبعض الآخر لا يرتبط به كأن يكون متصلاً بالمبالغة وتجاوز الحد المتعارف عليه كأن يقال فاحش الثراء أو فاحش الطول.
في الحج يجتمع الفحش والقبح، وبين الرجال يفترقان، لأنه لا يعد فحشاً، وقد يكون المتبادر إلى الذهن أنه إذا لم يكن فحشاً فلن يكون قبحاً كذلك، وربما يتصل بما يسمى بالسوقية والبذاءة، وهما يعتمدان على السياق الذي يقالان فيها، لكنه موقف من الكلام لا يتصل بالكلام نفسه الذي انتفت عنه صفة الفحش، وقد يكون فحشاً ولكنه ليس قبحاً.
الأمر المهم أن كلمة «الفحش» لا تتصل بالقول نفسه بقدر ما تتصل بالأثر الذي تؤديه، فإذا أدت إلى مشاعر نفسية معينة لدى المتلقي فهي من الفحش، أما إذا لم تؤد شيئاً كما هي بين الرجال فهي ليست كذلك، كما في رأي ابن عباس، بعيداً عن المعاني الأخرى التي يأتي فيها الفحش بمعنى المبالغة المفرطة أو تجاوز الحد المعقول إلى الحد المذموم في كل الأفعال والأقوال.
وهذا لا يجعلها متصلة بالقول، ولا بالسياق أيضاً بناء على أن السياق يكاد يكون واحداً، وإنما متصلة بأمر آخر يمكن أن أسميه بما بعد السياق، وهو الأثر الذي تحدثه الكلمة في نفس المتلقي وبناء على هذا الأثر يتحدد مفهومه والموقف منه.