محمد جبر الحربي
ولما كبِرتُ، وشعرتُ بنضج تجربتي، نعم نضجها لا اكتمالها، فلا تكتمل الحياة والتجارب إلا مع الإغماضةِ الأخيرة، أيقنتُ أن «جبرةَ» لن تكبر، ولا الهدهد، ولا الأشجار والمياه في داخلي، ولا «الطائف» واحتفالات الضوء واللون اليومية، لوحات السماء تتبعها استجابات لوحات الأرض السريعة، ذاك التشكل الذي يخطف الأبصار والقلوب بقي معي دائماً: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (43 النور).
إن قدرتنا على استعادة الجمالِ عجيبة، كذلك قدرتنا على تجاهل القبح، مع قدرةٍ نبيلةٍ على التغافل لذلك أشعر أن القدرة على ابتكار الجمال أو صياغته أو إعادة صياغته، والتجريب في حقوله لا نهائية.
ولقد شعرتُ دائماً، أنني بقيت مع كل ذلك الجمال طفلاً بريئاً نقياً خاصةً مع بياض الورق، كأنني لم أعرف اليتم، لا مشاكل وصعوبات الحياة وحروبها، ولا عرفت الكِبَر والضغط العالي، لكأنها أكسبتني المناعة مع البلاغة، ففاض الشعر بالألوان والألحان، وكان أن كتبت في النهايةِ القصيدة/ الملحمة «كبِرتُ وما زلتُ طفلاً» وفيها استعادات للطفولة والطائف، والمدن التي عرفت وألِفت، ودهشة العين والألوان:
أَعُودُ لِتُفَّاحِ رُوحِي
وَلِلْكَرْمِ حِينَ تَدَلَّى
إِلَى طَائِفٍ كَانَ مَهْدَاً
وَمَنْ يَمْلِكُ الْمُزْنَ نُزْلَا
وَمِنْهُ الْكِتَابُ وَعَقْلِيْ
وَفِيهِ الْخَيَالُ.. تَجَلَّى
وَمِنْهُ حَدَائِقُ بَوْحِيْ
وَأَلْوَانُ عَيْنٍ تَمَلَّى
وَمَا اللوْنُ فِي الشِّعْرِ إِلَّا
عُيُونِي تُهَذِّبُ قَوْلَا
ذلك أنِّي:
كَبِرْتُ وَمَا زِلْتُ طفْلَا
يُخَلِّدُ بِالشِّعْرِ.. أَهْلَا
يُؤَسِّسُ ظِلَّاً لِشَمْسٍ
وَيَمْسَحُ بِالشَّمْسِ ظِلَّا
عَلَى الرَّمْلِ يَرْسُمُ خَطَّاً
وَيَمْحُوهُ إِنْ هُوَ مَلَّا
خَيَالُ الْقَوافِي سَحَابٌ
وَمِنْ خَلْفِهِ الرُّوحُ هَلَّا
كَبِرْتُ.. وَتَبْقَى الْمَبَانِيْ
يُعَاوِدُهَا الْكَوْنُ نَهْلَا
لِأَنَّ الْحَنِينَ الْتِفَاتٌ
وَطَيْفٌ لِمَا كَانَ طِفْلَا
وَأَنَّ الرُّجُوعَ ابْتِهَاجٌ
أَقَامَتْ لَهُ الرُّوحُ حَفْلَا
نعم، هي رغم اليتم، وكلِّ مُرٍّ مَر، طفولة سعيدة ملونة تستحق الالتفات والرجوع والتدوين والاحتفال بسعادةٍ غامرةٍ، مع كل التفاتةٍ وكتابةٍ جديدة أو إبداعٍ جديد.
فالألوانُ مقرونةٌ بالسعادة والبهجة منذ الخلق الأول: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج 5)، {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل 60).
لقد كانت عيني تلتقط صوراً وتختزنها منذ طفولتي الأولى، وهي طفولةٌ غنية بالطبيعة، طبيعة الطائف والسروات بشكلٍ خاص، وهي الملاذ:
أَهْرُبُ مِنْ خَوْفِي
حَتَّى أَصِلَ إِلَى الطِّفْلِ
أُنَادِي:
- أَمُحَمَّدُ..!
يَأْتِيْ
يَصْحَبُنِي للتُّفَّاحِ،
وَلِلرُّمَّانِ،
إلى أَنْ تسْأَلَنِي الألْوانُ بِحُبٍّ
- مَا بِكَ يَا طِفْلَ الطَّائِفِ..؟
أَمْسَحُ عَنْ عَيْنِيْ الدَّمْعَةَ
وَاقِفَةً حَيْرَى
تَسْقُطُ
لَا تَسْقُطُ
أَسْأَلُ: مَا بِكَ يَا شَيْخَاً حَرْبِيَّاً مِنْ شِعْر..؟!
وَأَعُودُ إِلَى رُشْدِيْ
فَأُقَرِّبُ كُرَّاسِيْ
أَكْتُبُ شِعْرَاً يَنْسَابُ مِيَاهَاً
يَشْتَعِلُ الكُرَّاسُ بِفُلٍّ
وَحَمَامٍ أَبْيَضَ
تَحْضُرُ فِي الرُّوحِ السَّرَوَاتُ
جِبَالُ الْغَيْمِ الْعُظْمَى
وَسُهُولُ الْأّعْنَابْ.
لقد كنت أصور بعينيَّ الواسعتين الطريق من الطائف صعوداً وانحداراً إلى مكةَ فجدةَ والبحرَ وينبع عبر الطرق القديمةِ إلى المدينة والعلا وتبوك وحقل، وكذلك من الطائف إلى الرياض ذهاباً وعودةً، ومن الرياض إلى القصيم فالمدينة فتبوك. ثم الرياض تبوك عمّان، المخيمات، البحر الميت، العقبة، درعا، دمشق وغوطتها، بيروت جونيه البترون صور، الحدود الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، فمسقط براً إلى الإمارات وإماراتها، والمنامة، والكويت براً إلى بغداد والبصرة وبابل والموصل.
لندن ومدن الجنوب والشمال، روما وباليرمو وجبيلينا في صقلية، وأثينا واليونان وجزرها الآسرة، وباريس ومدريد والطريق إلى الأندلس، وحقول عباد الشمس.. كل الأندلس، صنعاء والقاهرة وتونس والرباط والدار البيضاء ومراكش، ودنفر كولورادو وجبال الروكي الأمريكية ، والتي شعرت فيها كأنني في الطائف مرةً أُخرى، وهونج كونج وازدحام البشر هناك في آخر العالم..!
ألذلك التقط ذلك الشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح عندما كتب: المكان في شعر محمد الحربي قارئاً ديواني المكتنز بالأماكن والألوان والتأملات والأفكار: خديجة...؟!
وأنا لا يمكنُ أن أنسى الطائف والرياض وجدة، لا المدينة لا مكة، ولا المدن، وحتى القرى، التي سحرتني بروحها، بثقافتها وفنونها وألوانها محلياً وعربياً وعالمياً..
فهل تستطيع نسيان دمشق أو بيروت أو بغداد أو صنعاء مثلاً، مهما خربتها أو شوهت معالمها الحروب..؟!
ومن قبل، هل تستطيع نسيان الجزيرة العربية، ومملكتك التي تحب، وإرثها حاضرٌ في الفؤاد، هذه التي يظنها العالم متاهاتٍ من الرمال والخيام والنفط، لا روحَ فيها، ولا ألوانَ لها، مجرد تكرارٍ يتلوه تكرارٌ يمحوه تكرار، وهي -لو أحسنوا البحث والظن- جنةُ القيم الروحيةِ والألوان، فكل ما عليك هو قراءة التاريخ بتبصر لتعرف كيف تشكلت الحروف، والرسالات، والحضارات إلى يومنا هذا، فمنها انطلقت الرسالةُ وفتوح الخير والسلام، رسالة وحضارة الإسلام، وها نحن بألواننا محط أنظار العالم من جديد برؤيةٍ لها ثقافتها الخاصة وألوانها..؟!
فالعالم في نظري ليس جغرافيا ومعالمَ فحسب، العالم روح..!
ولولا القيم الروحية لما كان هذا البوح.