تمثل وجوه المجموعة علاقات واقعية تشمل انعكاسًا للمجتمع في وعي القاص، وكأن ثمّة طباقًا بين التجربة والمضمون الذي تحمله؛ وعلاقة المثقف بمجتمعه. وفي المجموعة صوّر المواطن داخل وطنه مغتربًا نتيجة تحمّل ما لا يُطاق؛ وعدم القدرة على مواكبة الآخر والآثار الناجمة عن ذلك.
ففي قصة (العودة إلى الأصالة) ناشد فيها السارد بفحوى العنوان، وكأن السائق - بطل القصة- هو المعادل الموضوعي للمغترب عن أرضه فلا مفر من ذلك عندما تقتضي التعليمات بطرد الفقراء والباعة المتجوّلين؛ والمتسّولين حفاظًا على الشكل الجمالي للمدينة وسمعة السياحة، وكأن الفقر والعَوَز هما ثيمة المجموعة التي جمعت شتاتها؛ فكانت نصوصها معركة قتال على لقمة العيش فيقول السارد «وهل حياتنا إلا الخطر نفسه وإن لم أجازف اليوم.. متى أجازف؟!»
ثم يتطرق إلى العدالة الاجتماعية الغائبة وما تفرضه الحروب عليهم من انكسار وضعف، وهو القائد الذي يتعلم منه الجنود الشجاعة وقوة البأس.
حتى تأتي صرخته المزلزلة ص 19 قائلًا (ستموتون جميعًا دون استثناء.. يا حرامية.. يا قتلة.. يامن سرقتم قوت أطفالي وأكلتم لقمة عيشهم». وحينما أخذ يضغط على الزناد باتجاههم وجد أن إصبع الزناد لا يستجيب .. حاول إصلاحه ولكنه ظل ثابتًا لا يتحرك وكأن السلاح تحول إلى لعبة مثل حاملها الذي عاد إلى الشارع..
ولا يعني هذا أن الظلم فقط واقع على بعض رجال المجتمع ولكن في قصة (مايملاش عينه غير التراب) نرى البداية قلقة، فالأب لا يتحمل أوجاع ابنته الحانية.. فيهرول بها إلى المستشفى ليفديها بروحه؛ حتى تأتي نتيجة التحاليل الصادمة فلا يتردد في اتخاذ قراره؛ ليفعل فعلته ويستبدل لفظة ابنتي بـ(بدور) وكأنه تبرأ حتى من نسبها له بعد وأدها في رمال الصحراء الناعمة.. فلم يحاول استشارة طبيب آخر أو إعادة التحاليل وكأن رمْي الفتاة بالعار أمر يسير؛ ووأدها أيسر؛ حتى يأتيه في طريق عودته اتصالاً من المستشفى للحضور واستبدال تلك التحاليل التي تنتمي لسيدة بأخرى سليمة هي لفتاته المغدور بها.. عندها فقط ينزع الشماغ من فوق رأسه وكأنه يلقى معه كرامته وهويته.
وفي قصة (نجوم على الطاولة) ما يدعو للتساؤل؛ فالنوم مكانها السماء فكيف هي بين يديه ويلقى بها على الطاولة؟
أو أن النجوم هي التي على كتف البطل الذي تعلم أنه لكي يصل إلى الحقيقة عليه باستعمال شتى الوسائل وإن لم تكن إنسانية حتى يُلقي بهذه القاعدة عندما يلتقي بصديق طفولته الذي يعرفه أكثر مما يعرف نفسه فكان عليه أن يصل للنجوم أو أن يقدم استقالته ملقيًا بنجومه- دون اكتراث - على الطاولة.
ومن الملاحظ استعمال الألوان في بعض المواضع كما في قصة قلم أخضر الذي رمز فيه إلى العلم والثقافة والحرية، أما سارد القصة فلم يحمل أيًّا من الأقلام لذلك عَبَرَ التفتيش بسلام؛ وأيضًا ذكره للون الأحمر الغاضب دلالة البوح بما يجول في صدره حتى وإن مزّقته هذه الكلمات حتى وإن لم يجد لها صدى؛ على الرغم من عودته ثانية بين الزحام في قصته الدائرية.
كذلك الألوان الدالّة على الصراع بين الخير والشر أو الظلم والعدل في رمزه للونين الأبيض والأسود في القصص غير المباشرة فبطل قصة (عمي لا يشبهني) بدأها بوصفه للآسيويين بعيونهم الضيقة والقامات القصيرة والشعر الحريري والوجوه الصفراء وكلمات ليست مفهومة للسارد مما يدل على عدم انتمائه إليهم. ومع ذلك يغبطهم على نظافة مدينتهم وعملهم الملتهب كفرن كبير ولا يمسح عنه عرق الحرارة سوى طرف ( شماغه)- الذي يغنيه عن مناديلهم الورقية المؤقتة- فيتشمم فيه رائحة قريته التي لا تفارق ذهنه.. حتى يذهب لزيارة عمه الذي يعمل في هذا البلد الأجنبي لكي يصبح جزءًا منه؛ فلم يدخل قلبه بصيص شمس العدالة حين قال لابن أخيه «لدينا في المصلحة موظفون كثيرون على بند الأجور، هناك مرونة في تعيينهم وفصلهم ولدينا الصلاحيات لذلك، ولعدم الصلاحية سنفصل أحدهم ونعيّنك مكانه» مما كشف للسارد أن عمه قد فَقَدَ الكثير.. وهذا ما أكده في قصة سقوط الصهيل.. والصهيل هو صوت الفروسية وأخلاقها التي يحاول الكثير إسكاتها ووضع حد لانطلاقاتها.
وهذا ما صرح به في انكسارات وما في القرية من نقاء وأصالة، فهذا الرجل البسيط يحمل رُوحًا أكثر أناقة من صاحب السيارة الفارهة وفتاته الناعمة؛ وحينما أراد رميهما بالحجارة لم تُصَب السيارة وإنما تضرر أصحاب المحلات والبسطاء؛ وكأن المفسدين يتيهون في الأرض عبثًا دون مساس. فجعل لون الشوارع شاحبة وكأنها هي الأخرى أصبحت- مثل البعض - لا ترى الشمس.
ويكشف هذا اللون القصصي القيم الاجتماعية والفكرية في واقع مجتمعاتنا كما يقتضي من السارد فهم الشخصية الإنسانية وقوانين تطور المجتمع، ولعل هذا ما يساعد الناقد على تحديد موقف العمل الأدبي تجاه قضاياه المجتمعية.. عبر لغة تعبيرية -رامزة أحيانا- تدعو إلى القيم والأفكار المراد بثّها في عقل وذهن المتلقي.
** **
د. حنان الشرنوبي - ناقدة من مصر