الظاهرة الأسمى- باعتقادي- خلال الثلاثة قرون المنصرمة، التي هيمن النظام الرأسمالي خلالها على البشر: هي حركة «أطباء بلا حدود». فهي بالتأكيد ليست لهث وراء جمع المال، وقد يفقد الطبيب حياته بانخراطه فيها. هي خدمة للإنسان لمجرد أنه «إنسان»!
في ظل نظام تأسس على «اللا إنسانية»، ونبذ القيم والأخلاق والأعراف المتوارثة من الحضارات العريقة، ليس من أجل النهوض بقيم أسمى، إنما من أجل إعادة صناعة الإنسان ليكون أداة لجني الأرباح ولو بالقهر والنهب والقتل. في ظل هذا «التصحر» القيمي والأخلاقي تكون حركة «أطباء بلا حدود» وما شابهها، هي الأمل المتبقي لتثبيت المعنى «الإنساني» للوجود البشري.
بالرغم من الشحنة الإنسانية الكامنة في حركة أطباء بلا حدود، إلا أنها مرتبطة بالمناطق التي تعاني من الصدامات المسلحة. ولكن ماذا عن الصدامات غير المسلحة التي تجري في العالم كله تحت عناوين اصطلاحية كالديموقراطية والراديكالية والحرية الإعلامية وحرية الرأي وغيرها؟ والتي أخذناها جاهزة من «الغرب المتوحش» دون دراية منا؟ ثم سلط علينا ذلك الغرب إعلاماً قمعياً يتهمنا بالمروق والكفر وإهدار دمنا إذا ما حاولنا إعادة انتاج ما سوقه الغرب لنا؟ .. إذن نحن بأمس الحاجة لـ «مفكرين بلا حدود» كي ينقذوننا من غسيل المخ الأهوج الذي يتعرض له البشر كافة!.
ولا يقتصر الأمر على المفكرين هنا. فالبشر بحاجة لـ «تاريخيين بلا حدود» من أجل إعادة قراءة شروط الحضارات التي سادت وتلك التي بادت. وهذا يتطلب التخلي عن اللهث وراء المال أو الشهرة، وهي أعلى درجات نكران الذات وإبراز الحقيقة. والصراع المحتدم في العالم حالياً يهدد باندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تذر. ولذلك نحن البشر بحاجة لـ «إعلاميين بلا حدود» يوصلون الحقيقة ولو فقدوا وظائفهم. وبحاجة لـ «فنانين بلا حدود» يعيدون إنتاج المنظومات القيمية والأخلاقية الرفيعة التي تدهورت في ظل النظام الرأسمالي.
الاختصار ليس مفيدا في هذا السياق، ولكن الصراع المحتدم الآن هو بين الإنسانية واللا إنسانية. وهناك الكثير ممن يفتخرون بابتعادهم عن الإنسانية وتشبثهم بـ «حيوانية» تدر عليهم أموالاً وشهرة. ولكن رحلة استعادة «الإنسانية» المسلوبة قد بدأت. وهذا ليس حلماً، ولكنني لا أستبعد نشوء مجموعات من البشر تستحق أن تسمى «إنسانية بلا حدود».
** **
- عادل العلي