ولدت الأديبة الشاعرة الناثرة عائشة التيمورية في سنة 1840 في القاهرة وتوفيت سنة 1902 فهي من أديبات القرن التاسع عشر في وقت يندر فيه أن تقرأ المرأة؛ بله أن تكتب وتنظم.
يتقاسمها ثلاثة عناصر؛ كردي وتركي وشركسي فجدها كردي، وجدتها تركية، أما أمها فشركسية الأصل.
وكانت أمها كسيدات جيلها تريد لابنتها أن تتقن مهارات القيام بالبيت، وهي تتطلع إلى العلم والأدب لما كانت تشاهد في مجلس أبيها العامر بالأدباء. فوقف الأب في صف ابنته، وهيأ لها من المعلمين والمعلمات من فقهوها في دينها وفي لغتها العربية فضلا عن الفارسية والتركية.
بدأت بقرض الشعر مقلدة غيرها من الرجال، ومشطرة بعض الأبيات ومخمسة بعضها، ومجارية بعض ما تسمع، حتى استقلت بشخصيتها وشقت طريقها في عالم الشعر، فكتبت باللغات الثلاث الفارسية والتركية والعربية. ولها ديوان أسمته (حلية الطراز) عُنيت بترتيبه الدكتورة سهير القلماوي، وقدم له عدد من أدباء ذلك الجيل وأديباته منهم سهير، وبنت الشاطئ، كما قدمت له دراسة وافية مي زيادة، قبل أن تطبع دراستها في كتاب مستقل.
وتعترف شاعرتنا في مقدمة ديوانها بقصورها عن مجاراة الرجال، ولذلك تعدل عن قول (قلت) إلى (قالت).
وقد تناولت في ديوانها قصائد عائلية وإخوانية، ومراث، وقدر غير يسير من الغزل الجريء الذي يستكثر على فتاة في ذلك الوقت قوله.
ولهذا قسا عليها محمد سيد الكيلاني حين قال في مقال بمجلة الرسالة (العدد 949 لسنة 1951): «هل يحق للمرأة أن تقول شعراً في الغزل؟ وإذا حق لها ذلك ففيمن تتغزل؟ أتتغزل في امرأة مثلها؟ أم تتغزل في رجل؟ الواقع أننا إذا نظرنا إلى ما وصل إلينا من آثار شاعرات العرب لا نجد لهن بيتا واحدا في الغزل. فمما لا شك فيه أن عائشة انفردت دون سائر الشاعرات العربيات بما نظمته في هذا الباب، وقد تكون سلكت بذلك مسلكا وعرا، وجاءت أمرا إدّا».
وقد سبق الكيلاني في الإنكار على المرأة قولَ الشعر الناقد الإيطالي (کاردوتشي) فله قول مأثور، وهو أن اثنين عليهما ألا يقولا شعرا، لا سيما الشعر الغزلي، وهما: الكاهن المسيحي، والمرأة. لكنه بعد ذلك وضع مقدمة مجموعة الشاعرة الإيطالية (آني فيفانتي) وقال: «لدى المرأة شيء تقوله غير ما تنسخه من الرجل»!.
وعلق الكيلاني على بعض شواهد أوردها منها قولها:
أفديه لما صحا من سكره سحرا
وللطلا أثر في خده باقي
وقام يخطر والأرداف تقعده
وخصره يشتكي سقما لمشتاق
وقال لي بلسان السكر خذ بيدي
فعذت من لحظة الماضي بخلَّاقي
بأنها تقمصت شخصية الرجل، وخلعت عنها أنوثتها. ويتمادى في ظنونه ويقول: «والظاهر أن عائشة لم تكن مكتملة الأنوثة، ولذلك أخفقت في حياتها الزوجية إخفاقا تاما، وهجرها زوجها، ثم إنها لم تذكر هذا الزوج ولا في بيت واحد من شعرها».
في حين تؤكد مي زيادة أن هذا الشعر الغزلي، وبخاصة ما كان في مذكر ليس إلا من باب التمرين البلاغي. وقد اعترفت الشاعرة نفسها في تصدير بعض أبياتها حيث قالت: «وقالت - تقصد نفسها - متغزلة في غير إنسان، والقصد تمرين اللسان».
لكن ميَّ تعود لتشك في أن بعض ما قالته من غزل ليس تمرينا بلاغيا، لما وقفت عند الأبيات التالية:
أشكو الغرام ويشتكي
جفنٌ تعذَّب بالسهر
يا قلب حسبك ما جرى
أحرقت جسمي بالشرر
رام الحبيب لك الضنى
لمَ ذا وأنت له مقر؟
لكن تعذيب الهوى
ما للشجِيْ عنه مفر!
وتسوغ مي لها حين تتكلم بلسان الرجل بأنه من جراء ضغط المجتمع على عواطف المرأة وإخراس صوتها، فكان أيسر عليها أن تتخذ صوت الرجل.
ونستشف أن عائشة تخجل مما تقوله:
وهذه كلمات قادها شغف
إليك لولاه لم تبرز من القلم
جاءت ومن خجل تمشي على مهل
تخاف عند لقاها زلة القدم
ومما يدل على أنها لا تقصد أحدا بعينه، جوابها لشاعر سمعته يقول:
ماذا تقول إذا اجتمعنا في غد
وأقول للرحمن: هذا قاتلي؟
إذ أجابته قائلة:
إن كان موتك من قسي حواجب
كالنون أو من سحر جفن ذابل
أو غرة مثل النهار وطرة
كالليل أو من جور قدٍّ عادل
أو من لحاظ تسحر الألباب إذ
تروي لنا سلب النهى عن بابل
فهي التي فعلت ولم أشعر بما
فعلت فكيف تلومني يا سائلي
ومن أوضح الأمثلة على ما في شعرها الغزلي من تقليد، قولها:
حي الرفاق وصف للحي أشواقي
وحدث الركب عن تسكاب آماقي
قد جرعتنى صروف الدهر مرتغما
لواعجا كحميم أو كغساق
أسال حر الهوى قلبي وأبرزه
جفني على يد آماقي وأحداقي
هذا شواظ الهوى في القلب ملتهب
وفي التنفس من آثار إحراق
ومن التقليد البين قولها:
لاح الصبوح وبهجة الأوقات
فاشرب وعاط الصب بالكاسات
واجلب براحك للقلوب تروحا
فالراح تبدع نشأة اللذات
وانهض فديتك فالزمان مراقبي
ما الحظ لي في كل يوم آتِ
ودع الوشاة وما تقول عواذلى
فالعين عينى والصفات صفاتي
وكانت الشاعرة قد أصيبت برمد شديد، فنظمت في ذلك عدة قصائد، وصفت فيها ما فعله الرمد بها، وما جره عليها من البلاء. ومن البلاء حرمانها من رؤية الحبيب، قالت:
طفا ماء الجفون وما دنت بي
سفين الشوق من جودي الوصال
وقد أصبحت في بحر عميق
من الظلماء مجهود الملال
ضللت بليل أسقامي طريقي
إليكم سادتي فانعوا ضلالي
فوا أسفا على إنسان عيني
غدا في سجن سقم واعتقال
حجبت بسجنه عن كل خِلٍّ
وصرت مخاطبا صور الخيال
أإنسان العيون فدتك روحي
يهون لعود نورك كل غالي
أترضى البعد عن عيني أليف
أضَرَّ بعزمه ضيق المجال
عسى ألقاك مبتهجا، معافى
وأصبح منشدا: «أملي صفا لي!»
وقد شفيت من الرمد وأصبحت تنشد «أملي صفا لي» كما تمنت، ونظمت قصيدة مطلعها:
سفينة العين قد فازت من الغرق
وأشرقت تزدهي من ساحل الحدق
ومنها:
بكعبة الحسن إنسانا أرى فسلوا
عيني التي طالما ضلت من الغسق
وخبروني، أإنساني صفا ودنا
لمستهام رماه البين بالأرق؟
ثم عاودها الرمد، فعادت تصف ما تلاقيه من عذاب الظلام والأرق:
أبيت ومؤنسي الخفاش ليلا
وحالي معه شر الحالتين
فذاك بنور عينيه مهنّا
ولي أسف بحجب المقلتين
وأبسط للظلام أكف بثي
وأشقى لوعة بالظلمتين
تراني معرضا عن كل ضوء
فهل خاصمت نور النيّرين؟
ولشاعرتنا رثاء جيد، بلغت فيه ذروة الإبداع لما فقدت ابنتها (توحيدة) بعدما كانت تستعد لزفافها، وأدارت فيها حوارا على لسان ابنتها:
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غزير:
أماه قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة
فتراك روح راعها المقدور
صوني جهاز العرس تذكارا فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
** **
- سعد عبدالله الغريبي