وأنت تقرأ في فهرس كتاب البداية والنهاية لابن كثير، يلفت نظرك تأريخه للأحداث بالسنوات، لتتبين مدى ضآلة الأحداث مقارنة بحجم السنين، فتجد في العقد الواحد حدثاً أو حدثين، مما ييسّر على الباحث تسليط أدواته التأويلية حفراً وتنقيباً وسبراً، بينما نؤرّخ نحن جيل هذا الزمان المكثف للأحداث بالساعات، مما أنتج هشاشة مشاعرنا وسطحية تجاربنا؛ لأن وعينا ما إن يقترب من النضج حتى يفاجأ بحدث ينسخ كل ما أصّله وينقض كل غزل وكساء منهجي خاطه بجهاد نفس وصبر فكر، ليبدأ الذهن صفحة جديدة منكسرا بفعل الزمن ...
أعمارنا ونحن في هذا العصر السائل لا يمكن أن تتوازى مع أعمار من سبقنا، فالفتى سابقاً في وعيه أنضج من وعي الأربعيني لدينا؛ لأن الأناة والاستقرار سبيل النضج والتأمل والتعمّق في مسالك الحياة ودروبها، لذلك تعرّى مفهوم القراءة لدينا وتحول من شعور المعايشة والتجلي ليُختزل في فكرة أن نقرأ لنكتب!
باحثين عن تصنيف ذواتنا ضمن الكتابة، دون تحقيق لشروط الكتابة التي تتنافى مع الظهور الاستعراضي وتحفل بالكينونة الوجودي منغمسة بإسراف في قراءات واسعة وعميقة قبل أن تنبت حرفاً واحداً!
وقس على ذلك في كل تجربة نخوضها وقناعة نصل إليها، ما إن تحظى بالصلابة حتى تتفلت من بين يدينا، وتخذلنا هاربة من بين أصابعنا، فما إن نفرح حتى يطرقنا طارق الحزن بخبر عزيز أو فقدان صاحب، وما أن ينفتح باب وتظهر أشعة أساريره، حتى تهطل علينا السدود من كل واد ...
في ظني أن الهامش استفحل وبلغ الذروة ليصل درجة المتن في تفاصيلنا، والوعي امتزج بالواقع وغابت ملامحه ولم نعد نميز بينه وبين الخيال الجانح، وسالت شعاب الفكر لا لتجتمع بل لتتلاشى في بطون اللحظة.
المسافات الزمنية التي كانت عند القدماء بين ذواتهم وما حولهم من أحداث، مكّنتهم من الحفاظ على جوهر التجربة، وهي التي لا نطيق، في ظل سرعة كشّرت عن أنيابها فالتهمتنا، وصمم في السمع فاختفت هذه الحاسة الأثيرة مع غياب طفولتنا، وتنازلت عن وظيفتها مفسحة المجال لبصر يطارد بلهفة كل لون وومضة وبرق خُلّب لا معنى له، ولا قضية يتحسسها فيتبناها، ولا رؤية متماسكة تمنحنا قدرا من ضرورة العيش لأجلها ...
** **
- د. ماجد بن أحمد الزهراني