بدء السَّلام/
عظيم الشُّكر وجزيل الامتنان لنادي جدة الأدبي بقيادة رئيس مجلس إدارتها أ.د. عبد الله عويقل السّلمي لاحتضان الحدث العظيم (مُلتقى قراءة النَّص) عبر سنوات عديدة أمدَّ فيها الحقل النَّقدي بوابلٍ من العطاء الوفير.. وسلامُ تحيَّة وإكرام إلى جميع أعضاء اللجنة المُوقرة القائمة على نجاح هذا المُلتقى في دورته الثامنة عشرة.. وإلى فريق التَّصوير الذي وقف جاهدًا على قدميه دؤوبًا في عمله.
(1)
قال شيخنا شوقي:
«لكل زمان مضى آية، وآية هذا الزمان الصحف..
لسان البلاد، ونبض العباد، وكهف الحقوق، وحرب الجنف».
وقال ري برادبيري الأميركي: «الصحافة تُبقيك مزروعًا في الأرض».
وقال توم ستوبارد: «مازلت مؤمنًا أنك إذا أردت تغيير العالم فالصحافة سلاح فوري وأسرع».
وقال المهاتما غاندي: «حرية الصَّحافة هي شرفٌ سامي لا يجب حرمان أيّ دولةٍ منه».
وقال البريطاني أوسكار وايلد: «تحكم الصحافة إلى الأبد».
ولو تتبعنا المقولات الكثيرة من مختلف بقاع العالم لوجدنا أنَّها تُمجِد «صاحبة الجلالة» السُّلطة الرابعة كما أطلق عليها الأسكتلندي توماس كارلايل.. ولو تكلم العالم أجمع فالواقع هو الفيصل.. لم تحكم الصحافة يا عزيزي وايلد إلى الأبد.. ولو عشتَ أكثر يا شيخنا الأديب الأريب لوجدت لسان البلاد ونبض العباد برامج الفيسبوك وتويتر وسناب وتيكتوك.. وأتَّفق معك أيُّها الزعيم الثَّوريُّ وأظن أيضًا أنَّ إدارة الملتقى تتفق معك في أنَّا يجب ألا نُحرم من الصحافة.. رُبما لذلك اختارت الصحافة موضوعًا للملتقى.. أقول رُبما لأني ما زلت أفكرُ في سبب اختيارها.. ورُبما محاولة إنعاش وجودها.. وأعتذر من الإخوة الصحفيين على هذه الحقيقة المُرَّة.. حتى أنا لا أستسيغ قولها ولا أتقبَّل صوتها.. أو يا تُرى رُبما وقُوفًا على أطلالها وتمجيدًا لذكراها.. الحقُّ أنَّ بعض الأوراق أكَّدت لي هذه الفكرة إلى حدٍّ كبير.. إذ وقفت واستوقفت وبكت واستبكت صُحفًا ومجلات انتهت وإن لم ينتهِ ذِكرها وذكراها وآثارها.
لستُ بتلك الابنة العاقَّة للصحافة.. لكني هنا أتساءل.. ألا يوجد اليوم مجلات وصحف ناشئة تستحق من النُّقاد دعمًا وإشادة لتحيا زمانها..
ثم.. وما بعد ثم على قلة حروفه يكثُر نوشه.. من بين كلِّ الأوراق البحثيَّة المُقدمة أين قراءة الصحافة الإلكترونية في عصر الأدب الرَّقمي؟ ألم تُنتج الصحافة الرَّقمية ما يستحق من الباحثين الدِّراسة ولفت أنظار النُّقاد بعد؟
(2)
لعلَّ فكرة ادِّعاء الموضوعيَّة المُطلقة من أبرز الخُدع الأفلاطونيَّة التي نُروج لها جُزافًا في الكتابات النَّقديَّة لنُكسِب النَّقد حُلَّة عقلٍ يفتقده الأدب.. وإنِّي أتساءل إن كانت طبقيَّة النَّقد هذه كونه في مرحلة تاليَّة لبناء النَّص الأدبيّ وعاملٌ عليه.. فالنَّاقد ينتظر أدبًا يُثيره بشكلٍ ما ليعمل عليه بينما الأدب حيٌّ طالما هناك مُتلقي وإن لم يكن ناقدًا.. وشئنا الاعتراف أو أبينا.. فإنَّا لن نختار أدبًا لنعمل عليه إذا لم تُلامس شراراته أعماقنا.. مهما اختلقنا من مُسببات منطقيَّة لتبرير العمل وجعله هدفًا للدِّراسة.. الأمر المهم هو كيف يعتلي النَّقد كرسيّ الحَكم ليناظر بهاء النَّص بنرجسيَّة تضاهي نرجسيَّة الأديب.. وهو ينسى أو يتناسى أو يريدنا أن ننسى أنّه تَبِع لهذا الأديب.. غير أن ما يُخفقه بشكلٍ فاضح حينما تتفلت من يده أدواته النَّقديَّة وتراه يقتفي (الأسلوب الأدبي).. فينزل عن مقام النَّاقد إلى مرتبة أديبٍ مُنافسٍ.. لذا تجدنا في الحقل النَّقديّ نستميت في انتقاء ألفاظنا حتى أصبحنا وكأنَّا نرتدي بدلة رسميَّة بربطة عنقٍ خانقة تُفلتِر كلّ كلمة نُخرجها.. ومن باب العدالة أن نتسامح مع أنفسنا في بعض الأحايين حين نتأثر بما نقرأ فتظهر بعض عباراتنا متأنقة ومبهرجة...
حين عرفتُ أن موضوع ملتقى قراءة النَّص في مجال الصحافة السُّعوديَّة؛ تيقَّنتُ أنَّ النبرة الرَّنانة للصحافة ستظهر في الأوراق لا محالة.. عرفتُ أن الموضوعيَّة التي ندَّعيها ستجلس في الصفوف الأخيرة في قاعة النِّقاش النَّقدي.. ولم أزل مقتنعةً أنَّ تأثرنا بما نقرأ هو جزء من إنسانيتنا.. بيدَ أنَّ هناك فارقٌ فاصلٌ بين التَّجاوز عن الأسلوب الذي يقتضيه التَّأثر بالمقام و.. المحتوى حين يُحال العمل النَّقدي إلى ما يشبه التَّقارير والتَّحقيقات الصحفيَّة.. وأظُن أنَّا -حينها- بحاجةٍ إلى صرامة النَّقد تذُبنا عن الصحافة وتأخذ بحُجْزِنَا إلى ميدانه.
(3)
أجمع اللُّغويون القُدماء على أنَّ النَّقد مأخوذٌ من نقد الدَّراهم، أي تمييز جيدها من رديئها، وعليه فإنَّ النَّقد الأدبي يعمل على إظهار المحاسن والعيوب في النَّص الأدبي، فهو بمثابة الحاكم القاضي، ثم تطور دور النَّقد الأدبي حتى أصبح يُناقش النّص بدلًا من محاكمته، وظهرت لعمله مساحاتٌ شتى.. من جان بٍ آخر.. تعددت أدوار العمل النَّقديّ فهناك النَّقد الذي يُسخر الأدب لخدمة الإسلام.. وهناك النَّقد الذي يُوظِف الأدب لخدمة المجتمع.. وهناك النَّقد الذي يرى بأن الأدب للجمال والخيال الفنِّي.. كلٌّ يُحاكم الأدبَ بمبادئه.. لكنِّي لم أجد أبدًا -بحسب اطِّلاعي- نقدًا يُوظِف الأدوات الصحفيَّة.. وهذا يجعلني أتساءل..
- هل النَّقد الذي يُمارس سُلطته على النَّص الأدبيّ بُلِيَ بمن يفرض سطوته عليه!!
ديدن الصحافة الإثارة اللاسلميَّة.. وقُوْتُها (المعارك، المشاحنات، الخصومات... وغيرها من المفردات التي تكررت في الجلسات).. الخِطاب الصَّحفي يقوم على أساس إثارة الجدل ولفت المُتلقي واستفزازه للقراءة والتَّعقيب.. وكلَّما زادت مساحات الجدل والمناوشات زادت مقروئية المجلة وإقبال القُرَّاء عليها.. حتى إنَّ بعض الكُتَّاب يصطنعون الخِلاف فنًّا ومشاكسة..
حاشا لله أن ادَّعي أنَّ النَّقد سِلْميٌّ لطيفٌ لين الجانب.. ولولا خطيئة التَّعميم في الميزان النَّقديّ لأوشكتُ أن أُجزِم أنَّ النُّقاد كلّ النُّقاد سليطو اللسان ومتسلطون على الكلام.. لكن الاختلاف في النَّقد مُختلف عن النِّزاع في المعارك الصحفيَّة تمام الاختلاف.. مثلًا.. ماذا لو كانت الدِّراسة بعنوان (الموازنة بين فلان وفلان) بدلًا من المعارك الأدبيَّة بينهما.. ثم كان المحتوى يناقش بذات آليات الموازنة ...!
سلام الختام/
حضرتُ الملتقى باعتبار اختصاصي «ناقدة».. لكني لم أنسَ وأنا أكتبُ هنا أنَّ الوعاء «صحافة».
** **
- مشاعل عمر بن جحلان