«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي - جازان:
تحت شعار «لتعيش مثلهم» أقامت جمعية الثريا للمكفوفين بجازان فعالية استثنائية عُدّت الأولى من نوعها في المنطقة الجنوبية والثانية بالمملكة العربية السعودية وهي «تجربة العشاء في الظلام» وذلك ضمن فعاليات شتاء جازان وبدعم مالي سخي ومتابعة حثيثة من الهيئة العامة للترفيه، وقد افتتحت الفعالية على شرف سعادة مدير التنمية الاجتماعية بجازان الأستاذ: عبدالله الأمير، وتشريف سعادة عضو مجلس الشورى السعودي الدكتور فيصل الطميحي.
في ليلة لتثقيف الإنسان بإنسانيته والمشاعر بطبيعتها، ليلة تنزع فيها عينيك أو تضعهما في صندوق الأمانات لساعة من الزمان وكلاهما سيان؛ لأنك ستعرف وأنت في طريقك لتعلم ثقافة الظلام بأنك لست بحاجتهما، ولن تفيدك حتى وإن حملتهما معك.
تلكم العبارات الأولية هي مفتاح الليل الذي حضرته «الثقافية» لتكتشف وتنقل لقرائها ثقافة جديدة تتم عبر «تجربة العشاء في الظلام» التي أقامتها جمعية الثريا.
وعلى هامش البرنامج التقت «الثقافية» برئيسة الجمعية الأستاذة عبير الطبيقي وأجرت معها ضمن تغطيتها الميدانية حوارًا سلطت فيه الضوء على هذه التجربة الثقافية الاجتماعية الفريدة من نوعها والابتكارية، وعند سؤالها:
ّْ* أمام تجربة العشاء في الظلام ليتك تحدثينا أستاذة عبير عن هذه التجربة المجتمعية الإنسانية الجديدة على مجتمع جازان وربما المنطقة الجنوبية قاطبة؟
- في البدء نشكر لجريدة الجزيرة ومجلتها الثقافية تشريفنا بالحضور. وعن فعالية تجربة العشاء في الظلام، هي بدع من الهيئة العامة للترفيه وضمن فعاليات مهرجان شتاء جازان. وهي أن يدخل الزوار إلى مطعمٍ مظلمٍ تمامًا لا ينبعث منه النور مُطلقًا؛ لتناول وجبة العشاء في جو موسيقي هادئ، ويتم خلال التجربة منع الجوال إلا بوضعه على وضع الطيران داخل حقيبة مغلفة، ولا يمكن السماح بدخول أي ضوء ينبعث من ساعة يدوية أو غيرها. ونحن كمبصرين حين فكرنا فيها لأننا قد مررنا بمعاناة كبرى لأننا نعاني باستمرار في المطاعم أنه لا توجد قوائم خاصة بنا، ولا يوجد أحد يقرأ لنا القائمة أو يوصف لنا الطعام الموجود على الطاولة، ومن هنا فكرنا بإقامة هذه الفعالية وقد لاقت هذه قبولًا وترحيباً من الهيئة العامة للترفيه ودعم مادي ومتابعة حثيثة، وحريصة على إنجاحها.
وحول مجانيّة دخول الزوّار طوال أيام البرنامج الثلاثة أم بمقابل ماليّ أجابت الطبيقي بقولها: «في البداية كانت بمبالغ رمزية ولكن لأنّ التذاكر لم تباع بسبب صعوبة الدخول على الموقع الخاص بالشركة التي تعاقدنا معها قمنا بتحويلها فورًا إلى مجانية لأن الهدف الأسمى، والهم الأكبر هو أن يشعر المجتمع بالمكفوفين ومعاناتهم التي بدورك ستجربها حين تدخل فورًا لاستشعار كل ما فيها، ومتأكدة بأنه من وازعكم الثقافي، والإبداعي والإعلامي أنكم –وبلا شك- ستنقلونها بشكل يليق بها وبنا».
وعن ناتج قياس مشاعر الزوار الذين خاضوا هذه التجربة.. بدأت الطبيقي حديثها: «صراحةً كانت تعابيرهم مجتمعةً تصلنا كاستشعارٍ كبيرٍ منهم لنعم الله تبارك وتعالى، وأنهم عرفوا بأن المكفوفين قادرون على تجاوز المعجزات والصعاب، والمشكلات التي. لقد كانت بحق مشاعر مختلطة: بين الحزن، والفرح، والتفاؤل والثقة بنا كفئة قادرة على كسر المستحيل، وبأن المعاق غير عاجز.. وجاءت هذه التجربة كأكبر برهان، وإثبات واقعي على ذلك».
وفي حديثها الذي وجهته للمبصرين الزائرين وهم يأكلون في ظلام أشبه ما يكون بالظلام الحقيقي الذي يعيشه المستبصرون بهذه الحياة المجتمعية المستمرة والدائمة لهم طوال أعمارهم، استمرت الطبيقي في التأكيد على فاعلية مجتمعها الذي تعدّ هي واحدة منه وقائدة له عبر جمعية الثريا فقالت: «أنا دائمًا أقول لهم قبل دخول كل مجموعة للتجربة: «عش تجربة الكفيف ولو لساعة، ثم اعطنا انطباعك» وعندها ستحب حياتهم، وتشعر بقيمة انتصاراتهم التي يحققونها في كل برنامج يمارسونه، أو حياة يعيشونها.
ثم واصلت «الثقافية» الحديث مع الطبيقي حول إمكانية تكرار هذه التجربة في مهرجان شتاءات جازان المقبلة، وهي تقول: «بما أن هذه التجربة لاقت إقبالاً بهذا القدر، سنسعى جاهدين مع هيئة الترفيه والجهات ذات العلاقة والقائمين تحديدًا على مهرجان شتاء جازان وعلى رأسهم سمو أمير منطقة جازان ونائبه، ومدير إدارة التعليم بمنطقة جازان الذي سّخر كل جهوده الكبيرة لتذليل صعاب هذا البرنامج، وحرصه المستمر على المتابعة شخصيًا حتى نجاحها لتكون تجربة استثنائية تليق بحياة المبدعين لا الكفيفين كما يقول لنا دائمًا، ولا أنسى دور الشؤون الاجتماعية البارز في إنجاح هذه التجربة الإبداعية حقًا».
وما إن التقطنا حديثًا جانبيًا من أحد المارّين من أمامنا أثناء إجرائنا لهذا الحوار مع الطبيقي حول إمكانية نقل التجربة لمدن أخرى غير منطقة جازان؟ حتى وجهناه لها لأهميته وردّت عليه بيقينٍ تام: «لن نتأخر كفريق باتت لديه التجربة، ولا أستبعد أن يتحول المشروع إلى مشروع تجاري وهو بانتظار الداعمين لجمعية الثريا بمنطقة جازان باعتبارها صاحبة السبق، وليقينها بأنّ أدوارهم هي الأهم لنبلغ المنجزات ونعين بهذا عائلات كبرى قادرة على تجاوز الصعاب، والإعاقة البصرية وكتابة التاريخ عبر العشاء الكريم، ونشر الثقافة والتوعية بدور هذه الفئة الهامّة والمهمة بحياتهم اليومية».
وعن عدد الفريق المشاركين بفعالية تجربة العشاء في الظلام، أجابت: «خمسة مكفوفين من الرجال، وخمس كفيفات من النساء وهم يقومون بدور النادل من الألف إلى الياء ومعهم مشرف عليهم يتابع جميع مراحل التجربة ويحرص على تنفيذها بالشكل المرضي والمطلوب».
واختتمت الطبيقي حديثها للثقافية قائلةً: «أتقدم بالشكر الجزيل لـ»الجزيرة الثقافية» على زيارتها وتشريفها لنا، لامسةً عناء الجُهد المبذول ميدانيًا خلال تغطيتها للفعاليات المصاحبة، ولم يقصروا معنا حيث إنهم لبّوا دعوتنا، وبلغونا، واحتفوا بنا أيما احتفاء.. وهي مثال يُحتذى للبرامج الثقافية والإنسانية والإبداعية وهذا كله تحقق لنا من خلال تجربة العشاء في الظلام..».
وفي زاوية إنسانيةٍ إبداعيةٍ ثقافيةٍ أخرى التقت «الثقافية» بفريق المتطوعات والمتطوعين بالبرنامج الذي استمر ثلاثة أيام بمنتجع «رايدسون بلو جازان» وقد كان حديث المتطوعات متحديا في رؤاه ويقينهن بأنهن أهدين أعينهن لإخوتهم وأخواتهن الكفيفات وجعلن من تطوعهن هذا أسلوب ثقافة، وأسلوب حياة يرونها بلا عيون وإنما بقلوب ملؤها التفاؤل والسعادة التي لمسوها طوال أيام تطوعهن، ورأوها مرتسمةً على وجوه المستبصرات والمستبصرين بجمعية الثريا أو خارجها من زائرين وزائرات، بل وقلن بصوت واحد: «لو كانت لنا حياة أخرى ونحن كفيفات لأحببنها؛ لأن الكفيفات ينتظرهن في الآخرة بصر مؤجل سيرون به ما لا عين رأت».
وأمام بوابة استقبال الزائرين العائدين من التجربة كان لـ»الثقافية» حديث متسع مع زائرة تركت أثرها الإيجابي في جميع فريق القائمين على البرنامج، وقد خاضت التجربة داخل مطعم كفيف كل ما فيه سوى المستبصرين والمستبصرات الذين تحولوا لنادلين ومستضيفين وكان الحديث هذه المرة مع الأستاذة القديرة: (أماني السلمي) المحاضرة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية قسم اللغة الإنجليزية بجامعة جازان والتي عكفت طوال مسيرتها التعليمية على تتبع البرامج الخاصة بالمستبصرين والعناية بكل ما له علاقة بحياتهن حتى إنها كما قالت: «أنا كفيفة كلما التقيت كفيفة أو كفيفًا» وهذه العبارة قادتني لسؤالها عن سببها وأثر انبعاثها من نفسها لتقول: «إنني أُحاضِر لكفيفات بتخصص اللغة الإنجليزية وهن أذكى طالبات المجموعة وتعليمي لهن كثيرًا ما يُعلّمني أكثر مما يعلمهن» وقد أجرت «الثقافية» مع السُلمي حوارًا قصيرًا حول تجربتها الاستثنائية والمؤثّرة -كما وصفتها- هذا نصه:
* كيف وجدت الاستاذة السلمي تجربتها الأولى في أن تكون كفيفة أمام وجبة عشاء غير معروفة وفي الظلام الحالك؟
- كانت تجربة توعوية ومثرية وتجربة استشعار لنعمة البصر، واستشعار لنحس بالمكفوفين بمجتمعنا.
* ما الشعور الأكبر في لحظة تجربتك وأنت تشاهدين انقلاب الآية أمام نادلة كفيفة بعدما اعتدت طوال حياتك مبصرة أمام مبصرين؟
- «كان مزيجًا بين شعور فخر بالكفيفة وهي تتحرك بكل أريحية وتقودنا طوال التجربة وشعور تخبّط وتفكُّر حيث إنني أنا المبصرة ولكنني كنت عاجزه أمام الظلام أعرفه جيدًا إلا هذه المرة، وكأنّه أنكرني أو تنصّل مني!».
* ما الذي تقوليه للمكفوفين والمكفوفات الذين قاموا بدور هذه البطولة العظيمة في هذه التجربة الملهمة؟
- «على الرغم من أنها تجربة حتى في توقيتها؛ حيثُ إنها لم تتجاوز الدقيقة الستين من ساعتها المحددة، ولكن خلالها تعلّمت من النادلات المستبصرات المعنى الحقيقي للإرادة وإننا ربما نحنُ المبصرين نملك البصر ولكن الخالق وهبهم البصيرة والروح الملائكية عوضًا عن مفقودهم الأعظم.. فهنيئًا لنا بمنجزهم العظيم هذا».
* ما الكلمة الأهم التي يمكنك تقديمها للمبصرين من موقع تجربتك هذه، وما الذي يجب أن يقدموه لإخوتهم وأخواتهم المستبصرين والمستبصرات بمجتمعنا المتطور ثقافيًا واجتماعيًا كل يوم؟
- «في البدء عليّ تذكير ودعوة نفسي، ومن ثم دعوة المجتمع لدعم إخواننا وأخواتنا ذوي الهمم من هذه الفئة وسواها.. ذلك الدعم المتعددة أشكاله، والمختلفة أساليبه سواءً كانت مادية أم معنوية.. ولمجرد تواجدنا وانخراطنا في فعاليات مشتركة معهم كفيل برفع وعي وفاعلية ونشاط المجتمع تجاه هذه الفئة التي تعلّمنا أنّ لهم حياتهم التي سنفشل في اختراقها ما لم نشعر بعظمتها وقيمتها وأهميتها فلو استمرّ الليل –افتراضًا- لأيام طويلة وحدهم من سيتعايش معه –تمامًا- كتعايشهم مع الظُلمة التي تحطّ علينا فجأةً عند انطفاء الكهرباء؛ لأنني على يقين تام رغم أنه لا يوجد في بيتنا مستبصر إلا أنهم وحدهم من يعرفون أركان البيت، وأدواته، ومواضع كل شيء فيه.. وغير هذه الأمثلة».
* ما الذي يمكن للسُلمي أن تقوله للإعلام المقروء، والمسموع، والمرئي تجاه هذه الفئة المهمّة بمجتمعنا ووجودنا؟
- «لطالما كان وسيظل الإعلام بشتى أنواعه هو همزة الوصل والصوت المسموع، ولطالما كان له الدور الرئيس في تسليط الضوء على القضايا المجتمعية المختلفة؛ لذلك أتوجه أولًا: بشكرٍ كبيرٍ لفُرسان الإعلام من إعلاميين جعلوا همّهم الأهم القضايا الإنسانية، والتواجد دومًا في الصفوف الأولى لخدمة الإنسان والمجتمع من منطلقهم ورسالتهم التي يؤمنون بها. وثانيًا وأخيرًا: أطالبهم بالتواجد المكثف بجميع برامج وفعاليات ذوي الهمم بوطننا وتسليط الضوء عليهم؛ لأنهم أبدع خلق الله، وأكثرهم ذكاءً وبصيرةً وذاكرة، وليسمحوا لي بتحميلهم مسؤولية إسماع صوتهم للمجتمع الكبير المتمثل في وطننا العظيم، وبلدنا الأمين، والأكبر المتمثل بعالمنا الذي يتفق على احترام حقوقهم وواجباتهم..».
ولم تشأ «الثقافية» أن تختتم عملها الميداني بهذا البرنامج الجازاني الشتوي دون أن تسلّط الضوء على أهم جزء وأهم جنود مجهولين الذين ظلّ يعتمد عليهم نجاح هذه التجربة من عدمه أولئك هم فريق النادلين: حسين زيلعي، وعبد الله مغفوري، ومحمد حكمي، وهادي حنبشي، والنادلات: ريام زيلعي، عائشة معافا، ولاء سهلي، سمية سرور، ونورة مصلح. هذا الفريق الذي توجهت إليهم «الثقافية» لأخذ انطباعاتهم ومباركتهم بنجاحهم المُبهر ولمّا بدأ بعضهم الحديث وجدنا أنهم أكثر تنظيمًا والتزامًا حيثُ إنهم اتفقوا وأجمعوا على أن يتحدث نيابة عنهم أحد زملائهم، وكان المبدع هادي حنبشي الذي افتتح حديثه بقوله: بما أن زملائي النادلين والنادلات تسعة وأنا عاشرهم فاسمح لي أستاذ جابر بأن أقول لك: «إنني أشعر بأن في فمي عشرة ألسُن كل واحد منها يتحدث عن أحدنا» ومن هذه العبارة تفرع حديثي معه حيث سألته عن الأيام التي سبقت هذه التجربة ما الذي فعلوه لينجحوا هذا النجاح الإبداعي ويتركوا أثرهم الثقافي الكبير في جميع الألسنة التي حضرت طوال ثلاثة أيام متتالية هذه تجربتهم هذه، ليقول: «قبل التجربة كُلِّفنا كمستفيدين في جمعية الثريا لرعاية المكفوفين بمنطقة جازان بالتدريب لمدة أربعة أيام متصلة وشمل التدريب على جميع مرافق القاعة التي كنّا سنقدم فيها البرنامج. ونتدرب عليها في ظلمتين لا نميز بين إحداهما: ظلمة المكان وظلمتنا الخاصة الجميلة، حتى حفظ جميعنا القاعة من المدخل إلى المخرج خلال بروفات التدريب». ثم تتابع حديثنا الماتع معه وهو يتحدث في كل مرةٍ حديث النائب عن فريق إبداعي حقًا، حتى لكأنك وأنت تسمعه تتمنى ألّا يتوقف حديثه بصيغة الجماعة التي نابها في كامل حواره الذي نستكمل لكم أعزاءنا القراء نصّه فيما يلي:
* ماذا لو كنت أنت المبصر ولست الكفيف وطلب منك نفس دور النادل الذي قمت به، هل كنت ستقدمه بهذه العتمة الباهرة؟
- «لو كنت مبصرًا لكنت أنا في التجربة وكنت بلا شك سأشعر بمشاعر المكفوفين ومعاناتهم مع ظلمة أحبوها وألفوها وتعايشوا معها، وقد أقوم بعدة تدريبات ولعلي في الأخير سأنجح لأقدمها بهذه الجودة التي قدمت لكم».
* ما الرسالة التي يود بعثها المبدع (هادي) من داخل أسوار هذه التجربة الثقافية الإنسانية العملاقة لعمالقة بمقداره ومقدار رفاقه ورفيقاته النادلات سواءً للمجتمعات أم للمسؤولين والمعنيين بخدمات المستبصرين، والجمعيات الإنسانية؟
- «الكفيف قادر ومبدع متى لم يُحد من إبداعه، وأؤكد أصالة عن نفسي ونيابة عن جميع رفاقي ورفيقاتي في مجتمع عتمتنا الجميلة بأنه لا يوجد بيننا معاق وإنما يوجد مجتمع يعيق نتمنى أن يكون المجتمع واعيا ومقدرا لإمكانات وقدرات ذوي الإعاقة غير المعاقين أصلًا وطموحي أن يمحوا عنّا هذه الصفات الذابحة، والمرهقة لنا باللفظ والسمع.. سمعنا الحاد الذي ينوب عن بصرنا في الترافع عنّا عن كل أذى يصلنا حتى صرنا نؤمن جيدًا بأننا سنواصل مسيرتنا وحياتنا مهما بلغنا ففي الأخير يستشهد المبصر بقوله: «أذن من طين وأذن من عجين» ونحن أحق بها منهم؛ لأننا أكثر من يهمس عنهم عدا أنّ كثيرا ما نسمعه عطف مبالغ فيه: مسكين، انتبه له، ما يعرف شيء.. بالعكس اطمئن الجميع نحن اليوم بالذكاء الاصطناعي والتكنولوجي صرنا أكثر تطورًا ويمكننا القيام بجميع الأعمال الاستثنائية وهذا واحد منها».
وأمام حديث كريم كهذا من أهم فريق سعى لإنجاح هذه التجربة الثقافية إلا أن نختتم تقريرنا هذا من داخل أسوار التجربة التي لم نكن نرى خلالها أي شيء، لولا فريق النادلين المستبصرين. كنّا فقط نحس بكل شيء؛ ونزداد في كل دقيقة وأخرى إيمانًا واستشعارًا عظيمًا وثمينًا ويقينًا وتطبيقًا لنعمة البصر وأنها تعني حقًا لنا شيئا؛ لهذا آمل كإنسان من خلال شواهد عظيمة اقتنصتها من هذه التجربة أن تُغيّر رسميًا مسميّات «جمعيات رعاية المكفوفين» إلى ما ذهبت إليه العرب قديمًا بـ»المستبصرين» ولولا أنها تكتب رسميًا بهذه التركيبة اللغوية لما استخدمته بتقريري هذا؛ لأنهم كانوا أكثر إبصارًا من جميع طبقات ضيوفهم وزوارهم وقد قادوهم طوال ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد من مئات الخائضين لهذه التجربة بخدش أو جرحٍ أو أذى محتملين كامل شكّ الناس في قدراتهم، ومصيرهم حين يكونون بأيديهم، ومنصتين لقلقهم حتى مغادرتهم القاعة.. فيما هم كانوا بحق أكثر إبصارًا منّا ليس لأن الظلام ملعبهم الذي يجيدون الركض فيه دون أن يقعوا أرضًا بل لأن الظلام ثقافة، والظلمة وحدة تجمعك بأبناء جنسك عدا هذه الليلة بعشاء الظلام جمعت كل الثقافات ببعضها في ليلٍ دجوجيٍ أرخى سدوله وخطّ بظلامه وسواده انتصارًا عظيمًا لهم.