مها محمد الشريف
لأسباب كثيرة مستمدة من طبيعة الأشياء، يجب أن نسلط الضوء على الأحداث التي أتت بعد الحرب الباردة، حيث وقف إنسان هذا القرن الممزق بين الفاشية والشيوعية، بين الديموقراطية والتوتاليتارية، بين القومية والعالمية الكسمبوليتية، شاهداً على أفعال قمع وتلاعب بالعقول وفاقداً للعودة، بعد أن أيقن أن هناك تلاقياً بين السياسة والدين، فذبلت تلك الرؤى، وأصبح العقاب أكبر من الجريمة بعد نهاية كل حرب، وخفتت صيحة انتصار الديموقراطية وتعميم السلام، بعد الصراعات المتفرقة، خاصة في الشرق الأوسط وتدمير بنية بعض الدول فيه، وطحنت الشعوب كحبات الحنطة تحت حجر الرحى الغربية.
لم يكن من الوارد بطبيعة الحال؛ أن نتساءل عن العدالة في هذا العالم ولكن نحس بأنه يحق لشعوب هذه الدول الاقتصاص من تلك العدالة ومن الأخلاقيات الغربية التي تقف اليوم بكل ما فيها من قوة مع أوكرانيا، وتستقبل اللاجئين بكل حفاوة. بينما قضى كثير من اللاجئين العرب نحبهم من الصقيع والغرق الهاربين من البراميل الحارقة التي كانت تتساقط عليهم، ومن رصاص الجيش الأمريكي في العراق وتسليمه لإيران؛ أما في الحرب الروسية الأوكرانية، فكان العالم كله في حركة وصخب يقرعون أجراس النفير اجتمعوا ليشكلوا جيوشاً كبيرة لمواجهة روسيا، ولكن أحداً ما كان ليهتم أو يصغي إلى أقوالهم وصراخهم من الجهة الروسية.
دخلت جيوشهم العسكرية من خلال الجبهة الجنوبية، حيث هاجمت من خلال 3 جهات رئيسية؛ الشرقية والشمالية وأهمها الجنوبية؛ التي تعد آمنة الآن من الجانب الروسي، بعد سقوط مدينة خيرسون؛ وبديهي أن مغزى هذا الهجوم لا يختلف في جوهره ولا في أبعاده بالضرورة ويدفع بالاتجاه الصحيح الذي تريده روسيا.
في الوقت الذي سيطرت فيه على المدينة كل هذه الأحداث التي حددت هدفاً استراتيجياً للقوات الروسية، وهو هدم السد على نهر دنيبر بعد أن كان يمنع المياه العذبة من الوصول لشبه جزيرة القرم، وبالتالي أصبح تأمين تدفق المياه والجبهة الشمالية للقرم في قبضة روسيا؛ هذا فضلاً عن مراسيم متعاقبة لتوفير المستلزمات المحلية للحرب.
فما هو مقياس هذا الزلزال للغرب وتوابعه؟؛ لاسيما في تأثيره على مصائر العالم؟؛ وتصاعد وتيرة العنف في خضم هذه الحرب بإرسال الآلاف المتطوعين من الدول الأوروبية للحرب في الفيلق الدولي لأوكرانيا؛ تبعاً لما قالته وزارة الدفاع الروسية: إن الدول الغربية تكثّف من إرسال مقاتلين أجانب إلى أوكرانيا، فهل وصلت المسألة لإطلاق العنان لمذبحة على مستوى البلاد؟؛ وتنويهاً مروعاً لما سيأتي في المستقبل، فهناك دائماً ما يعمق الأحداث التي عصفت بخيار السلام والحوار، وتجلت خطورة المرحلة التي يتجه إليها العالم اليوم بالوقوع في بؤرة الكوارث، بعد وضع الخطط النووية للتدمير وتطوير القدرات العسكرية التقليدية والنووية والخسائر الفادحة التي جلبها هذا الصراع على نحو مدمر في التاريخ المعاصر، وانقسام العالم إلى شرق وغرب ونتائج يصعب استيعابها وتصورها.
ومن خلال هذا العجز، تهيأت الفرصة «لإعادة إحياء مشروع ما يسمى بـ(نوفوروسيا)، أو ما يطلق عليه في مصطلحات السياسة (روسيا الجديدة)، التي كررها بوتين في الفترة الأخيرة مع خطاب بدء الحرب، ويعتبر هذا المشروع جزءًا تاريخياً من الإمبراطورية الروسية القديمة في إقليم شمال البحر الأسود، والذي تشكل عام 1764»، مع أجزاء من المناطق الجنوبية الساحلية، بهدف التحضير للحرب في ذلك التوقيت، ولم يعد فيها أي شيء سري بالنسبة للعالم.
والأسئلة التي نطرحها إلى أين ستصل هذه الأزمة؟؛ وهل الرئيس بوتين يذيع حقيقة ما يجري في أوكرانيا بقوله مناهضة النازيين؟، فهل هذه العبارات من متطلبات الحرب المعززة لاستراتيجيات الصراع وردة فعل لكل الضغوط التكتيكية طويلة المدى؟، لكي تقرر مفاهيم مختلفة بينه وبين أناس اتفقوا على عدو واحد؛ ولكن بعض الخلافات لا يمكن حسمها بالأدلة المتوافرة؛ فالحرب كلمة تغطي كل أنواع الحلول والتفاصيل؛ كما أنها تلعب دوراً كبيراً في مزيد من التصعيد ومزيد من الضحايا المدنيين في المدن الواقعة على جبهات القتال. فكيف ستنتهي هذه الحرب؟ وما هو حجم تداعياتها على الشرق الأوسط في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية بعد انقطاع الإمدادات والطاقة؟
ما حدث له تأثير مباشر على أن الغذاء أحد القطاعات المهمة التي ستتأثر بالحرب، بما أن روسيا وأوكرانيا تشكلان معاً أكبر موردي المحاصيل في بعض أنواع القمح، وتمثل منطقة الشرق الأوسط 70 في المائة من سوق الصادرات الزراعية الروسية؛ كما أن الجانب السيئ من ارتفاع أسعار الطاقة يؤثر على الطلب الكلي العالمي على السلع؛ لأن أسعار السلع تزداد في حال زيادة أسعار البترول؛ لأن النيكل يمثل عنصراً أساسياً في تكوين بطاريات الوحدات الشمسية وسعات التخزين ووحدات التوليد بسبب قدرته على المقاومة. وتسيطر روسيا على 17 في المائة من واردات النيكل.
وبما أني قد بدأت المقال بتداعيات هذه الحرب فسأختمه بآثار هذا النقص من العقوبات المفروضة على روسيا وعلى سوقها الضخم، أضف لها أيضاً الارتدادات السياسية والأمنية، والرد الروسي على العقوبات سيكون فادحاً أيضاً، ومنه على سبيل المثال تقييد تصدير الياقوت الصناعي الذي تتجاوز حصتها في الأسواق العالمية إلى 70 في المائة من السوق العالمية.
إذا كانت التوازنات فاقدة لاستقرارها في الحلبة الدولية، يصعب بلا شك علاج الاضطرابات والانشقاقات الكبيرة؛ حيث اقترب حلف الناتو من حالة فقدان التوازن والتناقض والصراع بين المعسكرين الغربي والروسي، وهذا يعني أن صراعاً تاريخياً يدور في ساحة الحرب، بما أن الغالبية الساحقة من اليسار عاجزة عن مواجهة هذا التحدي بين المعسكرين؛ والفراغ الذي خلفوه وراءهم سرعان ما امتلأ بآخرين يدفعون نحو الاحتشاد العسكري من جديد.