محمد سليمان العنقري
لا شيء يحظى بالاهتمام والمتابعة عالمياً إلا الحرب الروسية الأوكرانية التي تقترب من اسبوعها الثالث، والتي يتمنى العالم توقفها نظراً لمخاطرها واضرارها الانسانية و الاقتصادية على الشعب الاوكراني، لكن لم ترشح أي بوادر لإمكانية التوصل لحل سياسي يوقفها وينقلها لمرحلة الاتفاق على صيغة تنهي هذا الصراع الذي قد يتحول لمزمن وينقل أوروبا لمرحلة خطيرة أقلها التحول لحرب باردة بين روسيا والاتحاد الاوروبي وحليفتهم أميركا وبريطانيا، بالإضافة لدول أخرى انضمت لهم بحرب العقوبات على روسيا مثل كندا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا فالدول التي تقف بوجه روسيا تمثل اكثر من 60 بالمائة من الناتج الاجمالي العالمي، ولكن ما تملكه من امكانيات هو ما يمثل الخطر الاكبر في تأثير هذه العقوبات على موسكو التي استعدت لهذه المرحلة منذ سنوات بخفضها لاستثماراتها بالسندات الامريكية بحوالي 98 بالمائة، إضافة لإجراءات تقنية ومالية واقتصادية عديدة لكن يبدو ان حجم العقوبات فاق التوقعات.
فقد اعتاد العالم على ان تفوض عقوبات على دولة ما سواء بقرارات اممية او احادية او جماعية وتشمل غالباً مؤسسات وهيئات حكومية لتلك الدولة وكذلك تطال المسؤولين وبعض الكيانات شبه الخاصة اذا كانت ذات علاقة وتأثير في ناتجها الاجمالي، كما تضع تلك الدولة عقوبات على من يصدر تقنيات معينة لها او يسهل لها حركتها التجارية دولياً لكن في العقوبات التي أقرت على روسيا يلاحظ سرعة تطبيقها وتحديدها الذي أعد قبل بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا حيث بلغ عددها 5530 عقوبة صدرت من دول اوروبية وامريكا وحلفائهم من مختلف القارات والهدف رفع تكلفة الحرب على روسيا، وإضعاف اقتصادها فمن المسلم به أن بداية الحرب «تحتاج لسلاح لكن استمرارها يحتاج لاقتصاد» ولذلك تسعى الدول المتحالفة ضدها لاستنزافها اقتصادياً وارهاقها بطرق عديدة مع تضييق واسع على نطاق حركتها بالتجارة الدولية حتى تجبر على ايقاف الحرب فروسيا دولة تستورد قرابة 60 بالمائة من السلع المصنعة، بينما تمثل صادراتها من النفط والغاز وفق بعض التقارير الدولية حوالي 65 بالمائة، بينما يمثل هذا القطاع 16 بالمائة من ناتجها الاجمالي الذي يبلغ 1،6 تريليون دولار، الا ان ايرادات النفط والغاز تمثل حوالي 42 بالمائة من الموازنة لكن لروسيا اهمية بالغة في سوق صادرات السلع الغذائية كالقمح، وكذلك المعادن التي تدخل في صناعة السيارات وكذلك الياقوت الصناعي الذي تنوي تقييد صادراته واهميته تكمن في ان شركة آبل تستخدمه في صناعة جوالات ايفون فإذا كانت العقوبات التي عادةً تصدرها الدول قد طبقت على روسيا لكن اللافت فيها عاملان في غاية الاهمية والخطورة.
الاول ان هذا التحالف الدولي الذي تشكل في وقت قياسي جداً بخلاف ما تمثله دوله من حجم ضخم من الناتج الاجمالي العالمي، الا انه ابتكر سلاحاً من العقوبات يحول اي دولة يعادونها لشبه منبوذة على كافة الاصعدة، فهي ستحرم من اكبر الاسواق استيراداً وتصديراً الا بنطاق محدود جداً، كما ان امتلاكهم للتقنية الحديثة يمثل قوة ضاربة لأي اقتصاد يستهدفونه بالعقوبات، فهذه الدول تنتمي لها شركات عابرة للقارات، واصبحت لاعبا رئيسيا في الاقتصاد العالمي، وتعتمد دول عديدة عليها في بناء شبكاتها الرقمية وتشغيلها، والعديد من الخدمات الصناعية والرقمية والمالية واللوجستية التي تهيمن على النشاط الاقتصادي الدولي، فالعامل الثاني الملفت ان روسيا تعرضت لعقوبات من هذه الشركات بأيام قليلة، حيث اعلنت 230 شركة من اكبر شركات العالم وقف اعمالها في السوق الروسي، مثل شركات التكنولوجيا الكبرى والعديد من البنوك العالمية بدأت تنسحب من روسيا وكذلك شركات صناعية ضخمة بمنتجات استهلاكية، وكذلك شركات سيارات اوروبية وامريكية، كما اعلنت اليابان وامريكا ودول اوروبية التوقف عن تصدير تقنيات تخدم صناعة النفط وبذلك فإن شركات الطاقة العملاقة التي تزود روسيا بتكنولوجيا صناعة الطاقة ستوقف خدماتها، بل وقامت بعضها بالاعلان عن نيتها سحب استثماراتها من اسهم شركات نفط روسية فإعلان هذه الشركات التي اصبحت بالمئات عن توقف اعمالها وخدماتها لروسيا التي هي عقوبات عملياً مما يعد تطوراً لافتاً فدول العالم وثقت بهذه الشركات واعتمدت عليها فيما تقدمه من خدمات، واصبحت جزءاً من اقتصاداتها بل وعدلت وطورت بتشريعاتها وانظمتها لاستقطابها وتهيئة البيئة المناسبة لتيسير اعمالها، كونها تمتلك تقنيات متطورة الا ان تحولها لتكون جزءاً من القرارات السياسية للدول التي تحمل جنسيتها يمثل خطراً كبيراً، كونها اصبحت اشبه باسلحة متغلغلة بالدول قد تستخدم ضدها، وهو ما يفتح الباب على ان دول العالم الغربي تتحول بطريقة تعزيز نفوذها الاقتصادي لاستخدام اذرعتها من الشركات العابرة للقارات لخدمة توجهاتها، فمن سيأمن لها بعد اليوم وما هي علاقة ملاكها الكبار والمؤثرين بقراراتها مع حكومات دولهم، رغم انها شركات مملوكة بالكامل للقطاع الخاص ومدرجة باسواق المال العالمية فما ذنب مساهميها من مختلف دول العالم ان تتأثر خططهم الاستثمارية فيها مع التراجع المحتمل بالايرادات والارباح نتيجة تدخلت حكومية مباشرة او غير مباشرة بنشاطاتها، فالثقة ستتضرر بالمدى المتوسط والطويل بتلك الاسواق والشركات المدرجة فيها من المستثمرين الدوليين من مؤسسات وافراد اذا كانت ستدخل تحت تأثير مسرح السياسة واتجاهاته.
العالم الغربي يمتلك اسلحة عديدة يستخدمها لفرض هيمنته الدولية خصوصاً بعد تصاعد دور الاقتصادات الناشئة وتوجهها نحو الاستقلال التكنولوجي والمالي والاقتصادي عموما من تأثير هيمنة تلك الشركات وعملات الدول الكبرى الا ان هذه الهيمنة واستخدام تلك الشركات في حروبها الاقتصادية يفرض على منظمة التجارة العالمية والامم المتحدة ان تفتح ملف آلية اصدار العقوبات وعدم شل اقتصادات الدول من خلال تلك الشركات الكبرى الا «بشروط محددة ومقننة» فبعض هذه الشركات تفوق قيمتها السوقية 2 تريليون دولار، ولم تصل لهذه الارقام الا بما حصلت عليه من تسهيلات لبيع منتجاتها وخدماتها في دول اصبحت اليوم تعاقب من قبلها فلا بد من ان يكون لدى اي دولة الحق بوضع ما يضمن حقوقها ويمنع وقوع ضرر عليها وذلك من خلال منظمة التجارة العالمية فمن غير المنطقي ان يصبح توقف تلك الشركات عن تقديم خدماتها التي تمثل أهمية كبرى في دول تتواجد بها منذ سنوات سلاحاً لضرب اقتصاداتها فهي اصبحت دولية ولا يمكن ربط قراراتها بتوجه الدولة التي تنتمي لها بالمطلق.