«الجزيرة» - كتب:
في دراسة وافية مستفيضة تتجاوز صفحاتها 600 صفحة من القطع المتوسط يناقش أستاذ الأدب والنقد والمتخصص في الأدب الأندلسي الأستاذ الدكتور: عبدالله بن علي ثقفان، قضايا متنوعة تتصل بالأدب الأندلسي، تتضمن: الشعر، والنثر في المصادر التاريخية، وتصوير المادة الأدبية للحياة الأندلسية. وأصدرت هذا الكتاب المتميز المجلة العربية ليكون الإصدار رقم 211. يقول د. ثقفان مستعرضًا فكرة الكتاب ومادته: «فلم تكن علاقتي بأدب الأندلس وليدة اللحظة، بل كنت أتطلع بشوق لدرس أدبها منذ كنت في المرحلة الجامعية، فكان أن وُفقت للعثور على ديوان شاعر من شعرائها المغمورين، فأظهرته للنور، ونلت به شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة الملك سعود، ولم يكن هذا كافيًا فقد كنت أحاول أن أعمّق هذه الصلة عن طريق التعامل مع أدب وأدباء الأندلس، لأقوم بأقل ما يمكن أن أعمله تجاه ذلك الفردوس المفقود إذ عايشت أحداث الأندلس لثلاثة قرون متتالية، وذلك منذ القرن الخامس إلى نهاية القرن السابع الهجريين، وهي فترة كانت الأندلس فيها تتأرجح بين الاستقرار وعدمه، حتى ضاعت، إلا أن الفكر كان مزدهراً، فلم يتأثر بقيام دولة أو دويلة أو ضياعها وذلك بحكم التنافس الموجود بين الأمراء والخلفاء، وبحكم تعدد العواصم الثقافية، فبعد أن كانت قرطبة المنبر المشع للعلوم كانت هناك أشبيلية، وغرناطة، والمرية... وغيرها فكانت الأندلس في هذه الحالة شبيهة بتعدد العواصم الثقافية في المشرق العربي بعد ضعف الحكم العباسي، فبعد أن كانت بغداد العاصمة أو دمشق، كانت هناك المدن الأخرى المنافسة.
ومن حسن الحظ أن كانت هذه الرسالة سبباً في تعميق صلتي بأدب الأندلس، إذ كانت في موضوع جديد جعلني أتعامل مع كتب التاريخ والأدب القديمة والحديثة، وهو موضوع يحاول أن يعمق الصلة بين الأدب والتاريخ، ولا يجعل الأدب عاملاً مساعداً للكشف عن كفة الماضي، أو مساعدة المؤرخ في تسجيل جملة من الأحداث والأحوال التي مرّ بها مجتمع ما.. كالحروب والغزوات وخلافها، ومن ثم كانت اختيار عنوان البحث وهو: (الأدب التاريخي في الأندلس من بداية القرن الخامس إلى نهاية القرن السابع الهجريين). فإذا كان التاريخ (هو العلم الذي يظهر الإنسانية على حقيقتها)، أو هو ذلك العلم الذي ينطلق من منطلق الكشف عن كنه الماضي، أو هو الحركة (حركة الكون وحركة الأرض وحركة الأحياء والناس على سطح الأرض، وما ستتبعه هذه الحركة الدائمة من تغير دائم، وهو يشمل الماضي والحاضر والمستقبل جميعاً...)، أو هو (مجموع الممكنات التي تحققت)(4)، أو هو (الأخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون) أو (الأخبار عما حدث في العالم في الماضي)، أو (هو علم يبحث عن الزمان وأحواله وعن أحوال ما بعض به من حيث نتحين ذلك وتوقيته)، أو (هو الإنسان والزمان)، أو (هو علم يتضمن معرفة أحوال القدماء). إذا كان ذلك كله عن التاريخ، فإن الأدب أكثر شمولية، إذ استعمله الأدباء في تأليفهم، فابن المقفع أصدر كتابين هما: (الأدب الكبير والأدب الصغير) وهما رسالتان في ضروب الحكم والنصائح الخلقية والسياسية، وخص الشاعر العباسي (أبوتمام) الباب الثالث من ديوان الحماسة باسم (الأدب) ومختاراته في هذا الباب من شعر الحكمة، وكان (الأدب) عنوانًا لباب من أبواب صحيح البخاري، في حين كان، الأدب، عنوانًا لكتاب ألفه (ابن المعتز)، فكان الأدب عند (البخاري) المحدث سلوكاً وخلقاً، وكان عند (ابن المعتز) الشاعر والأديب بديع المنثور من الأقوال الحكيمة. كما اتضحت شمولية الأدب في (البيان والتبين) للجاحظ، وكتاب (الكامل في اللغة والأدب) للمبرد، وكتاب (عيون الأخبار)، لابن قتيبة، وكتاب، العقد الفريد، لابن عبد ربه، وكتاب، زهر الآداب للحصري، وفي هذا الأخير، نجد أن الحصري قد نقل عن الحسن بن سهل (ت 238هـ) قوله: (الآداب عشرة، فثلاثة شهر جانية (أي تنسب إلى أشراف الفرس الشهارجة)، وثلاثة أنو شروانية (نسبة إلى كسرى أنوشروان)، وثلاثة عربية وواحدة أربت عليهن.
فأما الشهرجانية فضرب العود ولعب الشطرنج ولعب الصولاج، وأما الأنو شروانية فالطب والهندسة والفروسية، وأما العربية فالشعر والنسب وأيام الناس، وأما الواحدة التي أربت عليهن فمقطعات الحديث والسمر وما يتلقاه الناس بينهم في المجلس). وابن خلدون يرى أن (الأدب، هو حفظ أشعار العرب وأخبارهم، والأخذ من كل علم بطرف)(2).
والحموي صنف معجمه الموسوم (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، بهدف جمع ما وقع إليه من أخبار النحويين واللغويين، والنسابين، والقراء المشهورين، والأخباريين، والمؤرخين، والوراقين المعروفين، والكتاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدونة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل من صنف في الأدب تصنيفاً، أو جمع في فنه تأليفاً) (3). وبنظرة لهذه التعريفات أو التلميحات التي دارت حول كلمة (أدب)، نجد أن هذه الكلمة ينطوي تحتها إطاران:
الإطار الأول: ما يدخل في الأدب العام، وهو كل نتاج كتب باللغة العربية، يهدف إلى غايات خلقية أو تعليمية أو تثقيفية.
الإطار الثاني: ويختص بما ينتج في إطار الأدب الخاص، وهو الشعر والنثر الفني الذي تتوافر فيه مقومات العمل الفني الذي ينتجه الشعراء والكتاب المختصون أو المتخصصون في هذه الصفة.
الأدب التاريخي في الأندلس
وبهذا نجد أن التاريخ ينطوي تحت إطار المفهوم العام للأدب ما دام أنه الثقافة العامة لكل ما يكتب في اللغة، أو بمعنى آخر لكل ما يكتب حول الناس والأخلاق والعادات والتقاليد.. إلى آخر ذلك المفهوم، فكان مصطلح الأدبي عامًا، وكان التاريخ فرعاً من هذه الإطار العام.
وبنظرة للمصادر التاريخية الأندلسية، نجد أن الأصل يغلب على الفرع، فنجد فيها خيالاً وفناً، ونجد فيها أدبًا وقصصًا وحكايات، كما نجد فيها أخبارًا عن الماضي بأسلوب أدبي رصين، وقد بدا هذا واضحًا في الكتب التي خلفها (ابن حيان وابن بسام وابن خاقان وابن أبي صاحب الصلاة والضبي وابن عذاري وعبد الواحد المراكشي وابن الأبار، وابن سعيد)، ولذلك فهي تعتبر مصدراً رئيساً من مصادر الأدب الأندلسي، بينما هي كتب في التاريخ، سواء أكانت كتباً لتاريخ الرجال، أم لتاريخ الحوادث، وقد جاء هذا واضحًا من خلال الأسلوب الذي اتبعه المؤرخون فيها، ومن خلال الانتقاءات التي حوتها هذه المصادر من أقوال الكتّاب والشعراء في الأندلس، والتي اختارها المؤرخ لتدعيم رأيه حول الحدث أو حول كل ما له علاقة بمن يترجم له. إن الرسالة في موضوعها تحاول أن تكشف عن هذه العلاقة بين الأدب والتاريخ، أو ما يمكن أن يسمى (أدب التاريخ) وهو ما سيكون واضحاً في ثنايا البحث ونتائجه، ولمحاولة الوقوف على (أدب التاريخ) فإن الرسالة اتخذت منهجاً يقوم على الاستقراء والاستنباط دون غلو التأويل، ولا مبالغة في التعليل وصدرت الدراسة بعد المقدمة بتمهيد عنوانه (المصادر التاريخية الأندلسية.. وما تحويه من مادة أدبية) وقد نوقشت في هذا التمهيد المسائل التالية:
- أوليات التدوين التاريخي في الأندلس، وهي فقرة تؤرخ، أو تحاول أن تؤرخ لظهور الكتابة التاريخية في الأندلس، وما وصلت إليه، وأشهر المؤلفات والمؤلفين.
- تصنيف المصادر التاريخية بحسب المحتوى، وقد وجدت أن المصنفات التاريخية في الأندلس متعددة وكثيرة ولذلك اعتمدت الانتقاء من هذه المصادر، وليس الاستقصاء، فاخترت مصادر لها علاقة بأحداث الأندلس، وأخرى لها علاقة بتاريخ الرجال فيها.
- المنهج من حيث الاعتماد على المادة الأدبية، وهي فقرة تكشف لنا علاقة المؤرخ بالأدب، واعتماده ليظهر لنا صلة الأدب بالتاريخ.
وخلصت بعد التمهيد إلى أبواب الرسالة وهي ثلاثة كان أولها: الشعرية المصادر التاريخية، وقد اشتمل هذا الباب على أبحاث متعددة أهمها ما يأتي:
أولاً: مدخل، وقد حاولت فيه الكشف عن اعتماد المؤرخ على هذا اللون من ألوان الأدب في إطاره الخاص، وكيف كان المؤرخ انتقائيًا، ينتقي ما يناسب الحدث فقط مما يجعلها - أي مصادر التاريخ - تكون مصدرًا في بعض الأحيان لبعض الألوان الشعرية مثل شعر الرجز وخلافه.
ثانياً: غلبة المادة الشعرية، وقد جاء هذا من واقع مجيء هذه المصادر محملة بالنصوص الشعرية المتعددة والمتلونة، وبأخبار الشعراء. تنوع الشعر بتنوع طوائف الشعراء، فقد وجدت أن الشعراء في الأندلس يتنوعون بين ملك وأمير ووزير وفقيه وكاتب وشاعر، فلماذا إذا هذا التنوع؟ وما الأغراض المطروقة عند فئة دون أخرى؟، ولكثرة الشعر والشعراء وتنوعهم فقد ألمحت إلى ذلك بجدول يبين تعددهم، والأغراض التي طرقوها والمصدر والصفحات، وأحياناً عدد الأبيات، وألمحت بعد ذلك إلى الشعر التاريخي.
ثالثًا: التعليمي فالموشحات.
رابعاً: ومحاولة في تسجيل سمات هذا الشعر المنتقى - الفنية، فقد انتقلت إلى السمات الفنية، وبدأتها بمداخل، ثم تنوع المضامين الشعرية، ثم عن علاقة الشعر بالحدث، ومنها انتقلت إلى التركيز على هذه السمات الفنية من حيث الأسلوب.
الباب الثاني: وهو بعنوان: (النثرية المصادر التاريخية)، واشتمل على أبحاث تتمثل في الآتي:
أولاً: الصياغة الأدبية للمادة التاريخية في المصادر التاريخية الأندلسية، وهو عنوان يحاول الإجابة عن سؤال واحد هو (كيف صاغ المؤرخون الأندلسيون الأدب التاريخي في الأندلس.. السمات الفنية لكتاباتهم)، وقد حاولت الإجابة على هذا السؤال من خلال التطرق لبعض المصادر.
ثانيًا: قوالب أدب التاريخ في المصادر التاريخية الأندلسية، وقد ركز هذا العنوان على قالبي الخبر، والقصة الإخبارية التاريخية.
ثالثاً: النثر وقد قسم هذا العنوان إلى قسمين:
يدخل في إطار المفهوم العام للأدب، مثل القصص والأخبار والتوقيعات، والقسم الأول: الوثيقة التاريخية، وهو عنوان بدوره انقسم إلى قسمين منها ما يدخل في إطار المفهوم الخاص للأدب مثل (الخطب والوصايا) وقد ختمت هذا القسم بالسمات الفنية للوثيقة التاريخية.
القسم الثاني: كتابات الكتاب، وقد بدأ هذا القسم بمدخل أوضح تباين المصادر رصد أسماء الكتاب، وسبب ذلك؟ وقد تبع ذلك لمحة تاريخية للحياة الفكرية، ثم نماذج من كتابات الكتاب، وقد تنوعت هذه النماذج بين حكم ورسائل متعددة ومتنوعة، وبعدها السمات الفنية لهذا القسم.
الباب الثالث: وهو بعنوان (تصوير المادة الأدبية للحياة الأندلسية خلال الفترة من القرن الخامس إلى نهاية القرن السابع الهجريين). وقد اشتمل هذا الباب على مبحثين، هما: الأول: وهو بعنوان (التصوير الأدبي للحوادث البارزة) وقد اندرج تحته:
مدخل: تناولت فيه ما يمكن أن يسمى بشمولية كلمتي (حدث وبارز) وأين الحدث البارز في المصادر، وكيف صور؟؟
وإن التصوير الأدبي للحوادث قد جاء عن طريق تصوير الوضع السياسي ومنه تصوير الوضع العام، وعن طريق (تصوير الحروب والغزوات). الثاني: (التصوير الأدبي للمظاهر الاجتماعية)، واندرجت تحته بحوث فرعية مثل: *مدخل: وفيه إيضاح لمدى الكشف عن كل ما له علاقة بالحياة الاجتماعية.
* الكشف عن المظاهر الاجتماعية في المقتبس والبيان المغرب والمعجب مثل شظف العيش، الصراع في المجتمع، علاقة الحاكم بمن حوله، ما له علاقة بالحاكم،...).
* الكشف عن المظاهر في كتب التراجم مثل (علاقة الحاكم بالرعية، علاقة الأفراد بعضهم ببعض، الوضع الاقتصادي والاجتماعي، ظاهرة الجواري والقيان، ظاهرة الجلاء... الخ، وقد ختمت هذا الباب بتسليط جزء من الضوء على السمات الفنية للمادة الأدبية التاريخية التي تحدثت عن الأحداث التاريخية وعن المظاهر الاجتماعية.
ثم بعد هذا نصل إلى (الخاتمة) التي أحاول أن أبرز فيها بإيجاز (مصطلح) أدب التاريخ (ونتائج التطبيق الفعلي لهذا المصطلح من خلال ما تحويه المدونات التاريخية الأندلسية من مواد أدبية...، فالنتائج في الشكل والمضمون.
وما دام قد تم ذلك، فما بقي علي إلا أن أنوه بجهود أستاذي الجليل الأستاذ الدكتور محمد عويس الذي أرشدني كثيراً، ولم يمن علي بوقته الثمين، فكان له الأثر الكبير في توجيهي، وتذليل الصعوبات التي وقفت في طريقي في بداية هذا البحث، إذ إن المكتبة العربية تخلو من أي كتاب يدرس أدب التاريخ إلا ما يحدث لماماً من بعض المؤلفين مما لا يفيد باحثاً يخوض غمار بحث يتسع لثلاثة قرون خلت من تاريخ الأندلس، فجزاه الله عني خير الجزاء. كما لا يفوتني أن أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ممثلة في كلية اللغة العربية، وبقسم الأدب فيها، حيث أتاحت لي الفرصة لإعداد هذه الرسالة التي طرقت موضوعاً جديداً. وأخيراً..
ويعد هذا الكتاب من أكثر الكتب دقة وعمقًا في الأدب الأندلسي، وما زال الباحثون ينتظرون مزيدًا من إبداع أ. د. عبدالله ثقفان في هذا الميدان.