عبدالوهاب الفايز
السؤال الساخن منذ بداية الحرب الروسية - الأوكرانية، هو: ما هي المخاطر السياسية الدولية المترتبة عليها؟
الأثر المباشر سيكون على الأطراف الغربية، فالحرب أرادتها أمريكا وهيأت الظروف النفسية والدولية لها منذ سنوات، فأمريكا هي (من غذى وحرك الوحش)، حسب رأي جون ميرشايمر أحد رموز المدرسة الواقعية السياسية الأمريكية التي ترى أن تدخل الدول العظمى في الشؤون الداخلية للدول لأجل الهندسة السياسية الاجتماعية هو مصدر الخطر على النظام العالمي وخطر على الدولة نفسها، وأمريكا تقدم المثال الحي في العقدين الماضيين، حيث أصبحت القطب الأساسي في النظام الدولي، وهذا دفعها إلى تبني عقيدة الهيمنة الليبرالية بشكلها المتطرف الذي أدى إلى الحروب المدمرة في الشرق الأوسط، والآن نرى آثارها المدمرة على أوروبا.. الخاسر الأكبر!
نعم سوف تخسر، وأمَّا اللاعب الرابح من الحرب فهي أمريكا، فلديها المكاسب السريعة.. الذي تتطلع إليه أمريكا من الحرب الجارية عدة أمور منها: أمريكا تحتاج اختبار نموذج عملها السياسي الدولي، فالنجاح في احتواء روسيا وتقليص دورها ربما يتم تكراره مع الصين. أيضاً يتيح اختبار المنظومة الاقتصادية العالمية لمعرفة ما هي الآثار السلبية على الاقتصاد الأمريكي، وكيف سيكون وضع إمدادات الطاقة. أيضا الحرب تتيح فرز مواقف الحلفاء والأصدقاء واختبار عقيدة بوش: معنا أو ضدنا!؟ أيضاً تتيح إعادة تموضع عقيدة الهيمنة الليبرالية وهدفها الأسمى (الهندسة الاجتماعية والسياسة) للدول والشعوب، خصوصا بعد فشلها الكبير في العراق وفي أفغانستان، وفي الربيع العربي والثورة الملونة الأوكرانية.
أيضا تتيح لأمريكا وضع الأوروبيين أمام حجمهم الطبيعي إزاء التهديدات لأمنهم. الآن نرى كيف أرغمتهم على المواقف السياسية الداعمة لها، فقد هرولوا لدعم الموقف الأمريكي وخرجت دول عن حيادها السياسي والعسكري، وحتى المالي مثل سويسرا. إنها القوة.. (ما أحلاها!).
هذه مكاسب مباشرة سريعة، وهناك مكاسب غير مباشرة تسعى لها أمريكا وتخدم إستراتيجيتها الكبرى وتحولاتها الضرورية. أوكرانيا قدرها السيئ أن موقعها الجغرافي الصعب يجعلها ضحية الصراع بين الكبار، مثل بولندا وكوريا. أمريكا لا يهمها كوارث الحرب إذا كانت بعيدة عنها، فلم تتحرك مشاعرها تجاه مأساة شعوب الشرق الأوسط التي ما زالت تعيش مرارة العبث الأمريكي حين تفردت في القوة. الآن التحول في الاستراتيجية الكبرى مع تعدد القطبية هو الذي يدخل أوروبا في الصراع الجديد. فأمن أوروبا الغربية لن يكون في أولويات أمريكا. والدليل تشجيعها لروسيا وتهيئة الفرصة للحرب في أوكرانيا مع تحول اهتمامها الأساسي إلى مقاومة الصعود الصيني الذي أصبح الأولوية الرئيسة لإستراتيجية الهيمنة والنفوذ الأمريكي.
ورغبة الهيمنة المستقرة في الروح الأنجلوساكسونية الأمريكية - البريطانية هي المغذية لإشعال الحروب. وهي التي سوف تلام على الحرب الحالية لأنها تلاعبت بالمواقف ودفعت إلى قبول لأوكرانيا في حلف الناتو رغم أن الأوروبيين لم يرحبوا بانضمام أوكرانيا أو جورجيا للحلف لأنهم يعرفون موقف روسيا وطموحها القومي وخوفها التاريخي من التهديد الأوروبي لأمنها. الأوروبيون يعرفون جيدا أن أمريكا لن تقبل التلاعب بمحيط نفوذها، ولديها (مبدأ مونرو) الذي طبقته منذ القرن التاسع عشر لحماية مجالها الحيوي، وهو نفس المبدأ الذي تطبقه روسيا، وتطبقه الصين الآن.
الهيمنة الليبرالية التي تبنتها أمريكا هي التي أسست للبيئة الدولية المتوترة، والعقلاء في أمريكا يحذرون من ارتداداتها عليهم لأنها تستنفد قوتها الصلبة والناعمة. أوكرانيا لم تكن في القائمة المشرقة للدول الديمقراطية. روسيا أفضل منها، وهذه يتجاهلها التيار الليبرالي الديمقراطي الأمريكي المتطرف!
الأمر المؤكد أن هذه الحرب تتيح للشعوب العربية والإسلامية فضح حالة النفاق وازدواجية المعايير في المواقف الأوروبية والأمريكية. المتأمل في الموقف الأمريكي والأوروبي يجد فارقا صارخا بين الحدث الأوكراني والحدث السوري. ما حدث في سوريا مأساة ودمار وقع تحت أسماع أمريكا وأوروبا، والأطراف الرئيسية الروسية والإيرانية كانت تتشارك في الدفاع عن نظام بشار الدموي وتمده بالسلاح والرجال.
لقد دفعت إيران بسلاحها ورجالها للحرب على الشعب السوري ومارست التطهير العرقي ودمرت المدن السورية. ثم رأينا الموقف الأمريكي الأوروبي من الصراع في اليمن فقد عطلت التدخلات الأمريكية والبريطانية تقدم قوات الشرعية والتحالف المساندة لها.
الأمر المؤسف لنا جميعا أن نرى الأوروبيين يتجرعون مرارة الحرب التي عانتها الشعوب في الشرق الأوسط في القرن الماضي.
وعمومًا على المدى البعيد ستكون أمريكا خاسرة من فرض عقيدة الهيمنة لأن ارتداداتها البعيدة على الداخل الأمريكي ستكون مدمرة وسوف تعمق الانقسام بين الانعزاليين وبين المؤمنين بعظمة أمريكا ودورها الأخلاقي والمتعطشين لإشعال الحرب. هذه سوف تسرع في تراجع القوة الأمريكية. لكن على المدى القريب ثمة فوائد كثيرة للمؤسسة السياسية الليبرالية المهيمنة على السياسية الخارجية.
هذه الحرب ستكون اختبارا لتطبيقات النظام الدولي الجديد، متعدد القطبية!