د.سالم الكتبي
في ظل تفاقم أزمة أوكرانيا واقتراب القوات الروسية من دخول العاصمة كييف مع ما يعنيه ذلك من تداعيات وعواقب إستراتيجية متعددة: إنسانية وأمنية وعسكرية وسياسية، وغياب أي ضوء في نهاية النفق حتى الآن لتسوية الأزمة سياسياً، تراجعت ملفات وقضايا أخرى حيوية كانت تتصدر اهتمام العواصم الدولية والإقليمية وفي مقدمتها مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
في اعتقادي بأن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا قد أنتجت واقعاً جيواستراتيجياً جديداً يفرض نفسه على بيئة التفاوض، وهذا الواقع لا يمثل فقط عنصر ضغط على المفاوضات، بل يمثل تحولاً كبيراً في الأوراق التي يمتلكها كل طرف من أطراف التفاوض، والأمر هنا لا يقتصر على الجانبين الإيراني والأمريكي بل إن الحسابات قد تغيرت بنسب متفاوتة لدى كل من روسيا والصين وأيضاً القوى الأوروبية المشاركة (فرنسا وبريطانيا وألمانيا).
بالنسبة لإيران، يمكن القول بأن موقفها التفاوضي قد حصل على دعم قوي يصعب إنكاره من جوانب عدة منها رغبة معظم الأطراف المشاركة، بما فيها الولايات المتحدة، في رفع العقوبات عن صادرات النفط الإيرانية بحيث تسهم في تعزيز الطلب وخفض الأسعار التي ارتفعت بسبب حرب أوكرانيا، ومن المعروف أن رفع العقوبات عن إيران قد يعيد 3.8 مليون برميل من النفط الإيراني يومياً إلى الأسواق العالمية، ولنا أن نتخيل هنا أن عمليات تهريب النفط الإيراني الجارية حالياً قد أسهمت في زيادة المبيعات ومن ثم الإيرادات حيث تشير التقارير إلى ارتفاع احتياطات العملة الإيرانية من 4 مليارات دولار في نهاية عام 2020 إلى 31 مليار دولار في نهاية عام 2021، بزيادة قدرها نحو 27 مليار دولار، وهذا يشير إلى حجم التدفقات المالية الهائلة التي ستدخل الخزانة الإيرانية في حال رفع العقوبات بشكل كامل، التي يذهب معظمها أو على الأقل جزء كبير منها إلى تمويل الأنشطة الإقليمية الإيرانية ودعم الميلشيات وتسليحها بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات ونتائج تهم جميع دول المنطقة.
الدلائل تشير إلى أن إيران قد تستفيد أيضاً من توتر أجواء العلاقات بين روسيا والعواصم الغربية بسبب حرب أوكرانيا، بحيث يمكنها انتزاع مكاسب أكبر واستغلال رغبة الجانب الأمريكي في إنهاء هذه المفاوضات بعدما هدد مؤخراً بالانسحاب الفوري في حال استمرار تشدد الوفد الإيراني. كما يمكن أن تستفيد إيران كذلك من أي تغير قد يطرأ على الموقف الروسي أو الرؤية الاستراتيجية الروسية لهذه المفاوضات، وهي رؤية ستتأثر حتماً بتفاعلات أزمة أوكرانيا، حيث يمكن أن تتجه موسكو لتقديم المزيد من الدعم للموقف الإيراني، وذلك لاعتبارات عدة في مقدمتها عدم رضا موسكو عن موقف إسرائيل، وتحرر روسيا نسبياً من محاذير إغضاب إسرائيل بعد موقف الأخيرة تجاه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الذي لم يحظَ بقبول روسي تام رغم محاولات إسرائيل الحفاظ على التوازن الصعب بين مصالحها الإستراتيجية مع كل من واشنطن وموسكو. ربما ترى روسيا أيضاً أن إيران يمكنها أن تلعب دوراً مهماً في مناكفة الولايات المتحدة والضغط عليها خلال الفترة المقبلة بما يسهم في تسريع وتيرة تآكل النفوذ الأمريكي عالمياً ويفتح المجال أمام صعود الدورين الروسي والصيني لقمة هرم النظام العالمي ليصبح نظاماً قطبياً تعددياً. وهنا يبدو أي تعزيز للتفاهم الإيراني الروسي بمنزلة خصم مباشر من رصيد المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية سواء في سوريا أو غيرها، ولعل الكابح الوحيد لحصول إيران على مزايا روسية إضافية هو حرص موسكو على تفادي إغضاب دول مجلس التعاون، التي تمضي بحرص وحذر نحو بناء سياسات خارجية قطبية متوازنة.
على الجانب الآخر، فإن الأزمة الأوكرانية ربما تسهم في حدوث تغير في موقف المفاوض الأمريكي، وهنا يمكن وضع سيناريوهات عدة وطرح تساؤلات كثيرة لن يجد معظمها إجابة سوى من خلال التطورات الحقيقية على أرض الواقع، فالولايات المتحدة التي تقول التقارير الإعلامية الغربية إنها ليست راضية عن مواقف حلفائها من دول مجلس التعاون وحتى إسرائيل تجاه العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، قد تتجه لتقديم المزيد من التنازلات التفاوضية لإيران لتحقيق أهداف عدة منها محاولة استقطاب طهران أو على الأقل تحييدها وإبعادها عن الدوران في الفلك الروسي - الصيني، وهو هدف صعب التحقق عملياً إلى حد كبير بالنظر إلى اعتبارات عدة، ولكنه يبقى هدفاً محتملاً للدبلوماسية الأمريكية، ومنها أيضاً التفرغ لمعالجة التحديات الصعبة الناجمة عن أزمة أوكرانيا واحتمالات قيام الصين باستنساخ السيناريو الروسي لاستعادة جزيرة تايوان، وهناك أيضاً تحرير أسواق النفط من الضغوط بدخول الصادرات الإيرانية، والرد على رفض «أوبك +» الانصياع للضغوط الأمريكية بشأن زيادة الإنتاج النفطي للحد من ارتفاع الأسعار.
المؤكد من وجهة نظري أن الأزمة الأوكرانية وردود الأفعال والمواقف الدولية والإقليمية المرتبطة بها قد تدفع الولايات المتحدة لإعادة ترتيب أوراقها وسياساتها في ملفات وقضايا عدة منها تلك المتعلقة بالشرق الأوسط، حيث يتوقع أن تتجه السياسات الأمريكية لتبريد الأزمات الإقليمية وخفض احتمالات التصعيد بين القوى الإقليمية. بما يدفع للقول بأن مفاوضات فيينا قد باتت تحت تأثير ما يحدث في أوكرانيا، ومن الصعب للغاية التكهن بما تؤول إليه ليس فقط لجهة طبيعة وفحوى أي اتفاق محتمل، ولكن أيضاً - وهذا هو الأهم - لجهة فرص نجاح هذه المفاوضات التي باتت تواجه مخاضاً صعباً للغاية في ظل الظروف الدولية الجديدة.