د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
لما كنتُ طالباً في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ربما تهيَّبت المرور من مكان رئاسة قسم الفقه وقسم أصول الفقه؛ إذ مكاتب كبار مشايخ الكلية عن اليمين واليسار, وكانت بعض الأسماء معروفة مشهورة، بل ربما سمعتُ ببعضهم حين كنتُ طالباً بالمعهد العلمي, وكان الدكاترة يغدون ويروحون حول هذه المكاتب, وليس لي ثَمَّة حاجة للمرور من بينها.
وأذكر أنني ذهبتُ إلى جوار الممر الذي فيه قسم أصول الفقه فألقيتُ نظرة جهة تلك المكاتب المتقابلة قبل أن أتجاوزها, فإذا بشيخ بان عليه كرُّ الجديدين, قد تطأطأ رأسه قليلاً, عليه نظارة كبيرة الحجم, متكئاً على عصا يغلق باب مكتب, ثم أخذ يمشي الهوينى لم أره قبل ذلك, فاستقر شكله ومنظره في ذاكرتي, كأنه لا يلوي على شيء إلا هدفاً منشوداً, فلا يعنيه المار أمامه, ولا يُشغل عينه بالنظر يمنة ويسرة, وظاهره ليس ممن يستخبر عما لا يعنيه!
شيخاً دِعامتُك العصا ومُشيِّعاً
لا تبتَغِي خبَراً ولا تُستخبَرُ
طال الزمان بي -والحمد لربي- فرأيتُ الشيخ نفسه متكئاً على عصاه يدخل القاعة التي أَدرس فيها «بمرحلة الماجستير» في المعهد العالي للقضاء, ثم طال الزمان حتى جلستُ بجواره في جلسة اجتماع القسم تلميذاً زميلاً.
ما كنتُ متوقِّعاً حصول ذلك, فلله الفضل والمنة.
ذلكم هو شيخنا الأصولي, العالم الأديب, واللغوي الوقور, كريم النفس, عزيز الجانب, المتأني في لفظه, والمتأمل في حرفه, والراسخ في فنه, والدقيق في فهمه, والمتجدد في طرحه, والمجدِّد في تأليفه, أبويوسف يعقوب بن عبدالوهاب الباحسين رحمه الله, ورفع نزله ومنزلته, وجعل كتبه علماً نافعاً وعملاً صالحاً.
لما دخلتُ جلسة القسم أول مرة عقدتُ النية ألا أسارع في مخالفة ما أجمع عليه رأي الشيخ يعقوب والشيخ عبدالرحمن الدرويش رحمهما الله في المواضيع التي تعرض على مجلس القسم.
يُريكَ سَدادَ الرَأيِ مِن حَيثُ ما ارتَأى
وَأَعوَزُ آراءِ الرِجالِ سَديدُها
وكنتُ حريصاً أن أكون قريباً من مكانه في الاجتماع؛ لأسمع منه, فعنده من الأخبار والفوائد ما ليس عند غيره.
والشيخ رحمه الله لا يَكْمُل الانتفاع منه إلا بسؤاله, وكان يحب الذي يناقش بعلم ويبحث عن المعلومة, وربما أمضى أكثر المحاضرة في جواب سؤال, ومناقشة ما يرد عليه, وبعض الفوائد حوله, ومما أذكره أنه جاء عرضاً ذكر المجاز مع الشيخ رحمه الله قبل دخوله قاعة الدرس فقلتُ له- وكنتُ حينها طالباً في مرحلة الماجستير- إن الإمام ابن تيمية رحمه الله من أدلته على نفي المجاز أن أئمة اللغة وأهل الاختصاص كالخليل وسيبويه لم يذكروا المجاز ولم يلتفتوا إليه, فقال: كيف! ثم دخل القاعة وسجَّل حضور الطلبة ثم ألقى بصره إليَّ ثم قال: تقول إن علماء اللغة لم يقرروا المجاز! ثم ذكر رحمه الله بعض علماء اللغة «أتذكر منهم الأصمعي», فذكر عنه قولاً وحكاية وقال: إن لم يكن هذا مجازا فما المجاز؟!
لا يعنيني هنا تقرير صحة المجاز في اللغة أو بطلان القول به, إنما المراد استحضار الشيخ رحمه الله لكلام بعض علماء اللغة واستفاضته في ذلك! حتى كادت المحاضرة تنقضي, وهو يتكلم عن الموضوع نفسه.
حدَّث عن نفسه أنه درَّس في فنون, وذلك في العراق قبل قدومه إلى المملكة, ومنها: اللغة العربية.
ذكر لي رحمه الله أنه جاء مع وفد من جامعة البصرة لزيارة المملكة وتبادل الخبرات في التدريس الجامعي في بعض الجامعات, وربما كان هناك مؤتمر, ومما زاره وفدهم الجامعة الإسلامية في المدينة, قال الشيخ يعقوب: فدخلنا إحدى القاعات وجلسنا في الخلف, فكان ملقي الدرس هو الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله, وكان درسه في أصول الفقه, وكان يتحدث عن مسالك العلة, ولم يقطع درسه بل رد السلام ورحَّب بنا واستمر في كلامه, فجلسنا وخرجنا, وهو يفيض في هذا الباب.
سألته من أبرز من لقيتم في علم الأصول واستفدتم منه, فقال:
طه الديناري, وعيسى ممنون, ومصطفى عبدالخالق.
وسألته لم اخترتم تخصص أصول الفقه؟ فقال: جذبني إليه البعد العقلي في فهم مسائله, فجملة من مسائله تحتاج إلى فهم وتأمل, وكثير منها فيه جوانب عقلية تحتاج إلى عقل إدراكي وتأملي مع دقة نظر في ذلك.
وهذا صحيح, وعلى ذكر ذلك, فالشيخ يعقوب رحمه الله كان دقيق النظر, ثاقب الفهم, وكان متحرياً لأوجه الصواب بشكل لافت, بل كان من زيادة احتياطه مثلاً حين يناقش طالباً في تحقيق مخطوط يطلب نُسَخَ المخطوط؛ ليقابل عمل الطالب بالمخطوط, وينظر في جهده, وقد حدثني عن بعض الأخطاء الشنيعة في بعض التحقيقات, بل قال: إن أحد الطلاب أسقط عدداً من الصفحات في تحقيقه!
ومما أذكره من دقة ملاحظته أنه لما جاء إعادة النظر في مجلس القسم على منهج البحث الذي يسير عليه الطلاب, ذكر بعض الزملاء أنه من الواجب إذا كان في المخطوط خطأ في كتابة آية أنه يعدِّل الخطأ ولا حاجة للإشارة لذلك, فقال الشيخ رحمه الله: قد يكون الخطأ في فهم الطالب لا في المخطوط, وذكر أنه ناقش رسالة علمية, ومما جاء فيها: (قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ}, عامة)! عدَّل الطالب لفظ «عامة» وجعلها {كَافَّةً} وقال في الحاشية: في الأصل «عامة», والتصويب على ما في كتاب الله! فقال له الشيخ: إن مؤلِّف الكتاب يريد ذكر مثالٍ للفظٍ عامٍ, فهذه الآية عامة, فكتب مبيِّناً ذلك بعدها «عامة» على ما هو معروف في باب العموم, فليس هناك غلط يحتاج إلى تعديل, فبان الغلط من فهم الطالب!
وأذكر لما تقدمتُ لدراسة الماجستير في المعهد العالي للقضاء كان من أعضاء لجنة المقابلة الشيخ يعقوب رحمه الله وكان أوسط الثلاثة مكاناً وأعمقهم نظرة وسؤالاً, وربما لم ارتق للجواب عن بعض أسئلته كما يريد! وأذكر أنه قال لما لم أُجِب عن أحد أسئلته؛ إذ كنت أقول لما لا أعرفه: لا أدري! أو أصمتُ ولا اجتهد؛ إذ الاجتهاد هنا يكشف عوار الفهم والمقدار العلمي: ماذا تحفظ؟ فذكرتُ له شيئاً, منها بعض من نونية ابن القيم وكذا وكذا, فقال الشيخ: أسمعنا من النونية, فسردتُ عليه ما قاله ابن القيم في شيخه وفي كتبه, وهي:
وإذا أردت ترى مصارع من خلا
من أمة التعطيل والكفران
وتراهم أسرى حقير شأنهم
أيديهم غلت إلى الأذقان
فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة
شيخ الوجود العالم الرباني
أعني أبا العباس أحمد ذلـ
ـك البحر المحيط بسائر الخلجان
واقرأ كتاب العقل والنقل الذي
ما في الوجود له نظير ثان
وكذاك أهل الاعتزال فإنه
أرداهم في حفرة الجبان
وكذلك التأسيس أصبح نقضه
أعجوبة للعالم الرباني
فرأيتُ في وجه الشيخ رحمه الله انبساطاً لذلك, حتى ظننتُ أني سأتجاوز المقابلة باقتدار!
وعلى ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله فقد ذكر لي أنه زار الكوثري وناقشه في بعض المسائل, وذكر أنه ذكي صوفي, مُغترّ متعصب جداً لمذهبه, وأنه قال لي لما جئتُ لأغادر مكانه: أنصحك لا تقرأ كتب ابن تيمية وابن القيم!
يذكر الشيخ يعقوب عنه ذلك متعجباً لِمَ لا أقرأهما!
وقد حدثني الشيخ رحمه الله عن بعض ما مرَّ عليه في مصر, وأنه كان يطوف على الأندية الثقافية, ويطلع على الصراعات الحاصلة في ذلك الوقت, ومما حدثني به أن مصطفى النحاس قال لجمهوره وحزبه الذين لم يتركوه ليلقي كلمته من الهتاف والتصفيق: سيبوني ألقي خطابي ولما أقول «سَئِّف يا ولد, سئِّف يا ولد» فكان يلقي فإذا انتهى من بعض المقاطع, يقول: سئف يا ولد! فيهتفون ويصفقون! وأن شاعر حزبه يقول:
العدل ماش والأمور تُساس
ما دام فينا مصطفى النحاس!
وكان الشيخ يحكيها أحياناً وهو يضحك, وقد سمعتها منه غير مرة.
ذكرتُ له رحمه الله أن أبا الحسن الندوي أثنى عليكم في أحد كتبه, لما زار مصر, فسجل انطباعه عنكم قبل ستين سنة, فقال الشيخ يعقوب متواضعاً وصارفاً للموضوع: قابلته لما كنت أدرس في مصر فعزمته مع بعض الزملاء, فأكثرنا في الوجبة التوابل والفلفل ففرح كثيراً بذلك, إذ أحسنَّا إصلاح أكلة فقدها منذ خرج من الهند! فربما هذا سبب الثناء!
وقال لي: زرتُ محب الدين الخطيب رحمه الله في منزله قبيل الظهر, وكان ينزل من درج على الغرفة التي نجلس فيها, وكان لابساً قبقباً يصدر منه صوت عال, ثم أخذ يحدثني عن الذين يطعنون في الدولة الأموية وأنهم منحرفون بفعلهم هذا, فالدولة الأموية دولة لها فضل عظيم على المسلمين وعلى البلاد الإسلامية, والرقعة الإسلامية في زمنها هي أكبر رقعة في الأرض كانت تحت حكم خليفة المسلمين.
قال الشيخ يعقوب رحمه الله: ثم قام الشيخ محب الدين بفتح اللمبة! فقال لي: كيف إضاءتها؟ فقلت: ضعيفة! فقال: السبب فيها أو في كونها في النهار؟ قال الشيخ يعقوب: طبعاً لأجل أننا في النهار, فقال محب الدين: كذلك بنو أمية جاءوا بعد الخلفاء الراشدين, والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كالشمس.
وامتدت علاقة الشيخ يعقوب مع محب الدين الخطيب إذ كان قائماً على مجلة الفتح, وقد طلب من الشيخ يعقوب مقارنة مخطوط بكتاب عنوانه (فاضحة الملحدين), ويقول الشيخ يعقوب: لم أكن قبلها مهتماً بالمخطوطات مع أنه وقع بين يدي مخطوطات كثيرة ومهمة.
وعلى ذكر محب الدين الخطيب حدثني الشيخ يعقوب أنه التقى بابن أخت محب الدين الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله لما كان قاضياً في الشام, وأنه آتى له بالآيسكريم! وأن محور حديثه مع الشيخ يعقوب في ذلك اللقاء كان عن العراق وأحواله وأخباره.
سألتُ الشيخ يعقوب رحمه الله عن أفضل من كتب عن تأريخ العراق في القرون المتأخرة؟ فقال: عباس الغزاوي في كتابه (تأريخ العراق بين احتلالين).
وسألته هل التقى بالشاعر محمد مهدي الجواهري؟ فقال: نعم التقيتُ به, وهو شاعر كبير رافضي المذهب, حتى إن معروف الرصافي كتب إليه:
بك الشعر لا بي أصبح اليوم زاهراً
وقد كنتُ قبل اليوم مثلك شاعراً
إذا قلتَ شعراً قلتَه في بداعة
فكان به المعنى بديعاً وباهراً
لئن كنتَ تنمَى للجواهر نسبة
لقد كنتَ تحلو بالبيان جواهراً
فقلت له: ذكر بعضهم أنكم تنقلون مذهب الرافضة في بعض كتبكم؟ فقال: على وجه الرد والنقض غالباً, فمثلاً لما يأتي الاستدلال بالقياس أذكر أحد كبارهم المعظَّمين عندهم وهو أبو علي ابن الجنيد الإسكافي أجرى القياس خلافاً لما هم عليه, فلذلك يحاولون تأويل ذلك عنه.
وسألته عن العقاد وطه حسين وغيرهما, فأذكر مما قاله: العقاد واسع الثقافة, وطه حسين صاحب لغة سهلة جميلة.
كان رحمه الله جاداً في البحث والتنقيب عن المعلومة بل قال لي: إذا بلغني أن أحداً بحث مسألة أو موضوعاً في رسالة علمية أو غيرها لا يطمئن قلبي حتى أحصل على البحث أو تلك الرسالة, بل حدثني أنه طلب رسائل علمية وبحوثاً من دول عربية كتونس وغيرها.
كان يرمي رحمه الله إلى التدقيق والتحقيق فيما يبحثه, ويقلِّب النظر مراراً حتى تنضج المعلومة عنده حتى لو مرت سنوات على ذلك, فكان حريصاً ألا تكون كتبه مجرد تكرار لمن سبقه, ونسخة منها, ومن قرأ تقرير لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه «رفع الحرج في الشريعة الإسلامية» الموجودة في مقدمة الكتاب, علم اجتهاد الشيخ وصبره على البحث والتنقيب والتدقيق واستيعابه لما يقرأ, وعلو إدراكه حين يكتب.
إِذا جَلَسوا كانوا صُدورَ مَجالِسٍ
وَإِن رَكِبوا كانوا صُدورَ مَواكِبِ
وَما كُلُّ مَن هَزَّ الحُسامَ بِضارِبٍ
وَلا كُلُّ مَن أَجرى اليَراعَ بِكاتِبِ
قلت له مرة مستنكراً: توسَّع بعض المعاصرين في موضوع المقاصد, فحرك يده قائلاً: ليتهم توسعوا فقط بل جنوا على المقاصد وعلى الشريعة باسمها, وجعلوا المقاصد والمصلحة باباً واسعاً ليمرروا ما شاءوا من الأمور, تجويزاً لها باسم المصلحة والمقاصد, فقلت: لعلكم تتفضلون بالكتابة في المقاصد, فقال: فيه مذكرة يتداولها بعضهم, وأصل المادة كانت في دورة علمية ألقيتها قديماً, فقلت: ليتكم تراجعونها شيخنا وتشيرون إلى الجناية في التوسع في ذلك, فقال: لعل الله ييسر.
وبعد بضع سنين صدر كتابه (إرشاد القاصد إلى معرفة المقاصد), وأهدى إلي نسخة منه, فقلت له: هل أشرتم شيخنا إلى التوسع في استعمالها, قال: نعم وجعلته في الخاتمة, ثم فتح خاتمة كتابه وقرأ عليَّ ما سطره في صفحاتها الأربع, جزاه الله عني وعن طلبة العلم وعن المسلمين خيراً.
ومما كتبه رحمه الله هناك أن المقاصد (أدركها العلماء منذ بداية التشريع, ولكنهم لم يعطوها الصلاحيات والنفوذ الذي أعطي لها من قبل طائفة من المعاصرين).
وقال عن المصالح المرسلة في مداخلة له في مجمع الفقه الإسلامي الدولي: (كل المصالح لا بد أن تكون إما ملغاة أو معتبرة, الشارع لم يترك الناس سدى) وقال: (حينما تُنظر مسألة مخصوصة في جزئية واردة فيما بعد هي لا تخرج عن أنها إما أن تكون ملغاة, وإما أن تكون معتبرة, ولكن الاعتبار بالمعنى الأوسع وبمعنى الجنس... جمع المصحف مثلاً وكتابته: هذا أمر يدخل في المصلحة العامة الكلية؛ وهي المحافظة على الدين, فالشارع لم يترك هذا الأمر, ولكن هذه الجزئية ربما لم تكن في وقتها هناك حاجة إلى مثل هذا الأمر).
وكان يقول ويكرر أن المقاصد والمصالح سلاح ذو حدين, فليس كل من كان عنده علم أحسن استعمالهما فضلاً عن غيره من مثقف وصحفي.
سألته عن سبب رجوعه إلى نجد وتركه للبلد الذي وُلد ونشأ بل أمضى عقوداً من عمره فيه؟ فقال: لأجل حجاب بناتي, فقد حصلت بعض المضايقات هناك, فرغبتُ في الاستقرار في المملكة؛ لا سيما وأن جدَّنا خرج من أشيقر إلى الزبير.
فرحم الله الشيخ, ورفع نزله, وجزاه خيراً على هذه اللفتة المهمة, والأبوة الصادقة الناصحة, ووفق ذريته ذكوراً وإناثاً لكل خير, وأخلف عليهم وعلينا خيراً في فقده.
ما قيمة الناس إلا في مبادئهم
لا المال يبقى ولا الألقاب والرتب
سألته عن الوجيه محمد بن سليمان العقيل رحمه الله؟ فابتسم, فاستغربتُ ابتسامته! وقال: هذا جد أولادي, فزال الاستغراب! وقال: فيه كتاب عن سيرته, سآتي لك بنسخة منه, وأعطاني نسخة من الكتاب, مهداة من مؤلفه جزاه الله خيراً, وهو الدكتور خالد بن عقيل بن سليمان العقيل.
كان للوجيه محمد علاقة بالرؤساء والعلماء, فقد التقى بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله, فلما خرج من عنده, قال: إن مثل الشيخ محمد بن إبراهيم لو مات سيترك فراغاً لن يملأه عشرة رجال!
فلْيَلْحَقنَّ بما مضى مُستخلَفٌ
من بعده وليذهبنَّ ونَذهبُ
سألت الشيخ يعقوب رحمه الله عن علاقته بمشايخنا الكبار, فقال: لما قدمتُ من العراق لم أحاول الخلطة أو أن أظهر نفسي بشيء, وقلت في نفسي: المشايخ هنا ربما يكون لهم تحفُّظ عن رجل غريب لم يعرفوا بعد معتقده ومنهجه, بل ربما لم يسمعوا عنه شيئاً قبل انتقاله إلى كلية الشريعة, فكنتُ مقدراً ذلك, مدركاً صواب فعلهم, ومن أوائل من تواصل معي منهم -جزاهم الله خيراً- الشيخ عبدالله الغديان رحمه الله وطلب اللقاء, فالتقيتُ به, وكان لقاءً جميلاً, وكان الشيخ عبدالله يقول لي: كتابك «رفع الحرج» يكتب بماء الذهب! ثم كان لي علاقة بعدد من العلماء, وأتواصل معهم في عدد من المناسبات.
وأذكر أني اقترحتُ على أحد طلاب مرحلة الدكتوراه أن يقدم فكرة موضوعها عن «تخريج الفروع الفقهية على القواعد عند الشيخ عبدالله الغديان», ففعل, ولما عرضتُ الفكرة على مجلس القسم, هناك من أيَّد ومن خالف, فقال الشيخ يعقوب رحمه الله: الفكرة مناسبة, والشيخ عبدالله له فضل علينا كلنا, فإن لم نسهم في إخراج فقهه والجانب التأصيلي عنده فمن سيفعل؟ فقبلتْ الفكرة, لكن الباحث لم يستمر في الموضوع.
سألته بعد دخوله هيئة كبار العلماء بمدة: مَنْ مِن أعضاء الهيئة أُعجبتم به؟ فقال: الشيخ عبدالله بن محمد آل الشيخ, رجل يتكلم عن عقل وخلفية واسعة.
كان تواصلي مع الشيخ يعقوب رحمه الله مستمراً, وربما تفضَّل عليَّ فاتصل خلال الشهر الواحد ثلاث مرات؛ مستفسراً عن شيء, أو ليتأكد من خبر, أو ليطمئن, أو يدعو إلى وليمة سيقيمها, ومرة اتصل يسأل عن كتاب في الفروق الفقهية سَمِعَ بأنه طبع, فقلت: بلغني ذلك, وسأطلب لكم نسخة منه, وفعلاً تواصلت مع أحد الفضلاء خارج منطقة الرياض ليوفر نسخة للشيخ ونسخة لي, ففعل جزاه الله خيراً, وكان ذلك قبل نزول الكتاب للبيع.
ومما يذكر هنا أن الشيخ رحمه الله كان رئيس لجنة النظر في صياغة مفردات مقرر «الفروق» لمرحلة الدكتوراه, وكنتُ أحد أعضائها, فكتبتُ مسودتها, وأعطيت الشيخ نسخة, والدكتور آدم القضاة نسخة, فأجرى الشيخ تعديله عليها, وكان رأيه هو المقدم بيننا عند الاختلاف.
ومن التوافق أني أكتب هذه الأحرف عن شيخنا رحمه الله وأنا أُدرِّس طلاب مرحلة الدكتوراه مقرر «الفروق الفقهية» على ما تمت صياغته على رأي الشيخ, ومن مراجع التدريس فيها كتابه في الفروق.
لقد انتفع الناس بكتبه رحمه الله بل كثير منها أضحى مقرراً في عدد من الجامعات داخل المملكة وخارجها, ولا أظن أن مفردات التدريس المرتبطة بأصول الفقه أو القواعد الفقهية إلا وكتب الشيخ رحمه الله موجودة في مراجعها إن لم تكن في طليعتها.
سأله أحد الزملاء في قاعة الدرس: هل أنت حنبلي المذهب؟ فقال: نعم حنبلي.
ناقشتُ مع الشيخ رحمه الله بعض البحوث التكميلية التي يشرف عليها, وكنت مشتطًّا من مناقشة أول بحث معه؛ إذ هي أول بداياتي في المناقشة بعد التعيين, فالشيخ يُستعدُّ لمثله في النقاشات العلمية, فكنتُ إذا كان الخطأ واضحاً ذكرته, وإن كان في مسألة أصولية أخرجتها بقالب السؤال للشيخ, فإن أيد ما طرحته, طلبتُ من الطالب تعديله, وأذكر أن طالباً ذكر في بحثه الذي يشرف عليه الشيخ آية ثم قال: وجه الدلالة منها: أن عموم الأشخاص فيها, مستلزم لعموم الأحوال.. فقلت: هل العموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأحوال والأزمان والأمكنة؟ أو هو مطلق فيها؟ على ما ذكره ابن تيمية والقرافي؟ وهل يُلزم من لا يوافق على المسألة الفقهية بالقول الأصولي فيها؟ توجيهكم شيخنا, فقال رحمه الله: صحيح, لا يُلزم المخالف للقول بقاعدة هو لا يسلِّم بها, ثم وجَّه الطالب بتعديل ما تمت ملاحظته.
وأذكر أن الطالب نفسه ذكر دليل القياس احتجاجاً للظاهرية في مسألة, ثم تعقبه بأن الظاهرية لا يقولون بالقياس فلا يصح لهم الاحتجاج به! فقلت: هل الظاهرية هم الذين استدلوا بالدليل حتى تورده ثم تناقشه؟ فقال: لا, فقلت لشيخنا: ما رأيكم؟ فقال: لا يصح هذا الفعل, بل يُستدل لكل قول بما يوافق نظرهم الاستدلالي.
امتد عمر الشيخ رحمه الله حتى توكَّأ على عصى ثم على عصوين, حتى قال له أحد الطلاب ممازحاً: شيخنا أول الفصل على عصا وآخره على عصوين وش ناوي عليه بعد ذلك! فضحك الشيخ.
احتاج الشيخ إلى عربة تُقِلُّه, فكان يأتي إلى المعهد ويحضر جلسات القسم عليها مع أنه قد قارب عمره التسعين عاماً.
له هِمَّةٌ تَعلو على كُلِّ همةٍ
كما قد علا البَدرُ النجومَ الدَّراريا
كان آخر لقائي به قبل وفاته بشهرين, وآخر اتصال حين عزيته في وفاة زوجه رحمهما الله, وما هو إلا أقل من ثلاثة أسابيع حتى لحق بها, جمعهما الله في الفردوس الأعلى.
انْظُر إِلَى الأطواد كَيفَ تَزُول
ولحالة العلياء كَيفَ تحول
حقيقة أني لم أشبع من الشيخ علماً وثقافة وسؤالاً, مع تقديره البالغ, ومحبته الظاهرة التي لمستها في تعامله, ومع ذلك لم أكن ريَّاناً منه؛ لتقصيري في الاستفادة منه, رحمه الله, وغفر له, وأخلف علينا خيراً.
وَلمَّا أَنْ حَلَلْتَ التُّرْبَ قُلْنَا
لَقَدْ ضَلَّتْ مَوَاقِعَهَا النُّجُومُ
و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء