د. عبدالمحسن بن طما:
أودية الأكحل وخَضِرة ومغيسل والوَجِيدة وغَوَاش من أشهر أودية مخلّف، وهي من الأودية الخضراء بين المدينتين المقدستين. وقد مرت تلك الأودية عبر القرون بتطور إداري فكانت في أغلب العهود تابعة للمدينة المنورة. ففي القرن الثالث والرابع الهجري ظلت تابعة للمدينة المنورة. وبعد القرن الخامس الهجري لا يكاد يوجد أي خبر عن تلك الأودية عدا ماتشير له الوثائق المحلية خلال الثلاثة أو الأربعة قرون الماضية، وفي عام 1338هـ وقفت مخلف بجانب حسين بن مبيرك، وفي أخبار سنة 1347هـ قال الشيخ مبارك بن سليمان: «مررت في عام 1347هـ بوادي حجر ذاهباً للأكحل لجلب الزكاة من مخلف». وقد بلغت قيمة الجهاد المجبى من أودية قبيلة مخلف في الحجاز سنة 1355هـ مائتي ريال سعودي (وادي حجر: عبدالمحسن بن طما، الطبعة 3- 31 و55)، ثم أصبحت تلك النواحي تابعة للمدينة المنورة.
وقد ورد ذكر لنواحي الأكحل وخَضِرة وحنذ في المصادر عند عرّام السلمي وابن خردذابة وأبي إسحاق الحربي وأبي علي الهجري، وغيرهم. ومن المواقع التي حولها: وكد، والبريراء، والدهناء وأحوس(أغواش)، والوجيدة. وفي ذكر أعراض المدينة: «وقرى عربية والوحيدة ونمرة والحديقة وعادي وخَضِرة والسائرة والرحبة والسيالة وساية ورهط وغراب والأكحل (المسالك والممالك: ابن خردذابة (ت280هـ)، 129)
الأكحل: وادي به نخيل وأسفله يسمى وادي مرّ، ورد في بعض المصادر باسم الأكاحل، قال أبو إسحاق في (المناسك وطرق الحج 339، 340): «ثم ماء يقال له الأكحل، به نخل، وهو واد على نحو عشرين ميلاً، وهو لآل عاصم بن عمر بن الخطاب، والحسنيين»، قال معن بن أوس:
أعاذل من يحتل فيفا وفيحة
وثورا ومن يحمي الأكاحل بعدنا
وعندما وصف حمد الجاسر اتجاه الأكحل وودي الفرع قال في آخر كلامه: «ثم يجتمع الواديان». قلت الصواب: وادي الفرع يتجه غربا وبعد أن يجتاز وَدّانَ يصبّ في البحر، ولايلتقي بوادي مر ( الأكحل) الذي يدفع في رابغ.
وادي غواش: ورد مصحفًا باسم: أحواس، وفي (معجم البلدان،ج1: 118) وورد باسم أحوس، كماوردت أخوس بالخاء، كما ذكر نصر. ولم أجد اليوم من يعرف هذا الموقع بهذا الاسم، والواضح أنه وادي أغواش: ويسمى اليوم وادي غواش، وهو رافد من روافد وادي الأكحل، قال معن بن أوس:
رأتْ نخلَها من بَطْنِ أحواس حَفّها
حِجابٌ يُماشيها ومن دُونها لصبُ
خَضِرة: واحة من النخيل ترتوي بالمياه المتدفقة من أعلى الوادي طول العام، وبها عين. وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مَرَّ بِأَرْضٍ تُسَمَّى غَدِرَةً، فَسَمَّاهَا خَضِرَةً). قال عاتق البلادي خَضِرة :وادٍ يأتي مرّا من الشمال» (قلب الحجاز، 95)، والصواب: وادي خَضِرة يوازي وادي مر من الجنوب. ووادي مر يفصل بين الفرع وخَضِرة. و الوجيدة: مجاورة لخَضِرة من الشمال الشرقي، وقد وردت مصحفة باسم الوحيدة عند ابن خردذابة (مصدر سابق).
وَكْد والبُريراء: قال الجاسر: «وكد : طرف حرّة وراء مرّ والبُريراء: أكمة صغيرة». قلت: وَكْد: يسمى اليوم: وكيد، جنوب الأكحل، والبُريراء: قاع بين الأكحل وخَضِرة. قال الشاعر:
فإنّ بوَكْدٍ فالبُريراء فالحشا
فخلص إلى الرنقاء من وبعان
قرية مغيسل الأثرية: توجد في الضفة الجنوبية لوادي مغيسل ويطلّ عليها جبل نصيع من الجنوب، وهي تحوي بقايا أساسات لآثار قرية قديمة، وبها أثرٌ لمسجد قديم، أساساته مبنية بحجر طوبي اللون، مختلف عن المكوّنات الصخرية التي حوله.
قلتة الدهناء: تقع جنوب الأكحل وإلى الشرق من خضرة بمسافة بعيدة من هناك، قال الهجري: الدهناء بين مر عنيب وبين السائرة. إلى أن قال: «الدهناء، وهي قلتة، عميقة، « (أبو علي الهجري، 347 ). وتحتها قلات منها مفرطة ثم الخرقاء.
مواقع الرصد والحماية: ينتشر حول تلك الأودية كثير من المباني الدائرية ومواقع الرصد والاستطلاع (المراقيب) وكذلك المذيّلات وبقايا القلاع والحصون الأثرية ولكثرتها أبعاد وشواهد حضارية. ومن أشهر تلك الحصون:
1- حصن الجمرة: يطلّ على خَضِرة من الشرق، وبداخله أساسات لمنازل ومسجد ومساحات مفتوحة، ويطل هذا الحصن على سوق خَضِرة والسقائف والصبال التي حوله، حيث يقدم الحماية والتخزين، ويبلغ طول واجهة السور الشمالي للحصن حوالي مائة وسبعين مترًا ، بينما يبلغ طول سوره الشرقي حوالي خمسة وتسعين مترًا، أما الناحية الغربية من الحصن فهي محمية بالحافة الصخرية للوادي، وله برج للمراقبة (أودية الأكحل وخضرة ومغيسل: عبدالمحسن بن طما، الطبعة1443هـ، 76 ).
2- حصن وادي خضرة : وهو بناء بيضاوي الشكل مرتفع في أعلى الحرة الجنوبية لوادي خضرة ويطل عليها من الجنوب ويبلع أطوال أقطاره حوالي أربعة وسبعين مترًا، بينما يبلغ طول قطره الآخر حوالي اثنين وستين مترًا تقريباً. (أودية الأكحل، المصدر السابق75 ).
الواجهات الصخرية: تحتفظ الواجهات الصخرية لتلك الأودية بذاكرة تاريخية أثرية في غاية الأهمية، قد يصل العمر الزمني لبعضها عدة آلاف من السنين، فعلى تلك الواجهات ورد ذكر لشخصيات إسلامية معروفة في صدر الإسلام. كما احتوت على كثير من رسومات النخيل والأبقار والوعول والغزلان والنعام وبقية حيوانات الصيد الأخرى، وهذا يرشدنا إلى بداية نشوء أولى الحضارات والمستعمرات البشرية التي لا يقل عمرها الزمني في تلك الأودية عن أقدم آثر في الجزيرة العربية. ومردّ ذلك كله لتوفّر الظروف المناخية المناسبة من حيث وفرة المياه والكلأ في تلك العصور. ولاشك أن لما دُوّن على تلك الواجهات الصخرية من رسومات موغلة في القدم أهمية بالغة، حيث أنها توفر معلومات تاريخية مهمة عن الحقب الزمنية التي لم يتم ذكرها في المصادر التاريخية. كما تعطي مدلولا للمهتمين بالآثار بأن هناك حضارات قامت على أرض المملكة العربية السعودية منذ وقت مبكر من تاريخ البشرية.