أروى السقاف
تترجم فلسفة الألم واللذة غريزة البقاء على الأرض لدى الكائنات الحية، وبدونها ينتفي الإحساس بالحياة فتنعدم، وما بين ألم ولذة يتشكل الوجود بشكل مستمر بكافة صور تفاعله، فتتحور العلاقات بين الأفراد، وتتبلور النظرة إلى الذات، وتُشد الرحال نحو مجموعة من الغايات بناءً على سعي الإنسان نحو تحقيق المزيد من اللذات وتجنب ما أمكنه من الآلام.
إن تحصيل اللذة وتجنب الألم هو نتاج الخبرة الشخصية التي يمر بها الفرد طوال حياته، والتي من خلالها اكتسب معايير تحديد اللذة والألم. والفرد الذي مرَ بخبرة مرتبطة بمثير يحرك اللذة، ولكنه حدث تحت ظروف سيئة يصبح هذا المثير سبباً في جلب الألم فيسعى لتجنبه، ولذلك فالأفراد مختلفون في مفاهيمهم نحو اللذة والألم ومتفاوتون في مقدار حصولها، فالإنسان بطبيعته يفكر ويفسر ويتأثر بعاطفته فما يعد مؤلماً بدرجة كبيرة عند أحدهم يكون ألمه عند الآخر بدرجة أقل وهكذا.
بناءً على ما سبق يمكن القول إن الإنسان يمكنه التحكم في مستويات اللذة والألم، وطالما آمن بهذه القدرة وسعى لتوظيفها في سمو حياته فقد حقق غاية وجوده، وما أن يسمح لهذين الجنديين بقيادته يفقد زمام ذاته، ويتخبط بين تيارين متضادين لا يعرف مكانه بينهما. والانجراف نحو العاطفة لتصبح الأسلوب الذي يشكل اللذة والألم هو جِناية كبيرة يرتكبها الفرد في حق نفسه وغيره، فالعاطفة إن لم يؤازرها العقل قد تشوه الواقع ويصبح ما هو لذة ألم في الحقيقة لو أخذنا بالاعتبار أن الإنسان متقلب العواطف، وهذا لا يعني سلبية العاطفة، بل إن العاطفة النقية التي لم تعلق فيها الشوائب تصبح أداة استبصار واستشعار قوية حقيقية تفوق في مداها محدودية العقل وتحليلاته، وهو ينطبق عليه ما ينطبق على العاطفة، فالعقل قد يمنطق الألم ويزيده، وقد يختلق اللذات التي لا وجود لها، ولذا علينا أن نختار بالعقل والعاطفة معاً ما نستلذ به ونتجنب ألمه.
وتجدر الإشارة لنقطة مهمة وهي تحول الشعور من الحاجة إلى اللذة، فالإنسان على سبيل المثال يحتاج للحب والانتماء، ولكن ماذا لو تطور الشعور بها من حاجة إلى لذة؟ وهذا لا يتحقق إلا بعيش اللحظة في وقتها الحاضر، يقول إريستبوس «اللذة التي لا تشبع في لحظتها لا معنى لها» أي أنه لا يوجد شعور حقيقي باللذة في الماضي أو المستقبل، وحتى الأفراد الذي يستلذون بهدف مستقبلي لم يتحقق بعد هم يتلذذون بتفاؤلهم الآن وبسعيهم واندماجهم، وكذلك الحال عند استدعاء لذات ماضية في الوقت الحاضر وإعادة الشعور بها هو في الحقيقة أشبه بشعور الحنين، لأن اللذة لا ترتبط إلا بالحاضر أي هنا والآن فقط.
أيضاً من صفات اللذة أنها غير معتادة، ومتى ما دخل الاعتياد في شيء أفقده لذته وقمته، وما هو مؤلم يصبح مقبولاً بعد اعتياده، كذلك هي سامية أي لا يمكن أن تكون اللذة في شيء دوني وإلا تصبح لذة مزيفة يعقبها الألم، وأن اللذة تحرك الحواس، وتستثير مجموعة من المشاعر الإيجابية تستمر حتى بعد انتهاء اللحظة، بالإضافة أن اللذة ليست حصرية على شيء في حد ذاته، وأنها متعددة المصادر، وهي متزنة غير مفرطة ولا يصاحبها شعور بالخوف من فقدانها وإلا تحولت لألم وعُصاب، وتكون أكثر تجلياً في حياة من يركز على استخراجها حتى في أبسط اللحظات، أولئك ممن لم يسمحوا لنفوسهم أن تنغمس في الألم إلى حد الغشاوة التي تحجب عن الشعور بالملذات.
يمكن القول إن الألم رغم ما يحمله من سلبية إلا أنه يلعب أدواراً إيجابية عدة منها أنه لولا وجوده لما ميزنا اللذة فوجودها مشروطة بوجوده، بل إن وجوده هو ما يدفعنا إلى تجنبه وتحصيل اللذة، إذ لا خيار ثالث، فمسألة التبلد أي عدم الشعور لا بلذة ولا بألم هي الموت الحقيقي للحياة، وحديثي هذا لا يعني أن اللذة والألم قد لا يجتمعان في لحظة واحدة، فعواطف الانسان معقدة ومتداخلة كأحداث الحياة، وأحياناً هو من يقوم بتعقيدها فحين يشعر بالألم بدلاً من أن يعيشه قد يلجأ إلى لذة لتخفيفه، وتتحول من لذة يمكن الانتشاء بها لذاتها إلى لذة مُلزَمة بتخفيف الألم، وهذه طبيعة البشرية في السعي نحو تجنب الألم والحصول على اللذة كما يقول جيرمي بنثام: «إن جميع دوافع النشاط في الإنسان تهدف إلى تحصيل اللذة وتجنب الألم».
إن اللذة المستديمة هي التي يكون منبعها الاتصال بالله ذي المصدر الحقيقي لملذات الحياة، وكل ما يقوم به الفرد من أفعال الخير التي تتفق مع فطرته القويمة هي في الأصل تترجم هذا الاتصال، فالفرد يخدم الآخرين ويحبهم ويعتني بذاته ويستلذ بما يفعل لأنه يشعر خلف ذلك أن هناك إلهاً أودع فيه هذه الفطرة التي تتلمس اللذات والتي بها عرف مُوجِدها فصارت كل لذاته الحياتية لذات مستديمة لأنه أدرك أنها فيض من الله لا تنفصل عنه.
تذكر أن لذات الحياة متنوعة فهناك لذات عقلية وروحية وجسدية وغيرها فاختر لذاتك بعناية، الأمر نفسه ينطبق على الألم فلا يكون أي شيء يؤلمك، بل اختر ما يستحق أن تتألم من أجله، رغم أنه في أحيان كثيرة يسطو الألم دون اختيار إلا أنه يمكن التحكم بمستواه بالعقل والعاطفة، ويبقى الجواب على سؤال من أنت؟ هو: أنا سر الحياة وما أنتجَته كل اللذات والآلام التي مررت بها.