منفوحة أصالة التاريخ، وعبق الماضي، ديرة صناجة العرب أعشى قيس، أحد شعراء المعلقات العشر، سمي بالأعشى لضعف بصره، ولقب بصناجة العرب لجمال صوته، وطرب شعره، وقد جعلته العرب مضرب المثل حين قالت: أشعر الناس الأعشى إذا طرب، وقد كان متيما بها، أقلته أرضها، وأظلته سماؤها، واعتل عليل نسماتها، كان لمنفوحة عاشقا، ذكرها في قصده وقصيده، وطرب له في ترانيم قيثارته، ومن وفائه لها، قال فيها:
شاقتك من قتلة أطلالها
بالشط فالوتر إلى حاجر
فركن مهراس إلى مارد
فقاع منفوحة ذي الحائر
وقد بادلته منفوحة حبا بحب، ووفاء بوفاء، فهي يشقها طريق واسع سمي بشارع الأعشى، ومدرسة ناهضة تدعى بمدرسة الأعشى، فالتوسع العمراني في القرن العشرين أدى إلى ابتلاعها بشكل كامل، وبقي فيها من الطلل البعيد مبانٍ طينية طاعنة في السن، ومرقب تاريخي شاهد على ترفها وحضارتها، وهي مكتظة بكم من مزارع كثيرة يغذيها وادي حنيفة، وفيها مسجد القبلي الذي طرب له الشيخ عثمان بن محمد بن سيف، قال على عادة الشعراء حينها يمعنون في النسيب، ويستهلون القصد والقصيد بالوقوف على الطلل، ووصف الرحلة والرحل .
يا هل القبلي ما فيكم فطين
ما تقولون المشقي وش بلاه
وقيل سبب تسميتها بهذا الاسم عند أهل اللغة منفوحة أنها اسم مفعول من النفح وذلك لوقوعها في مهب الصبا، حيث تنفح منها الرياح التي تهب من مطلع الشمس، ويقول الأصفهاني إن التسمية جاءت من أجل قولهم: انفح لنا أي هب لنا، فسميت منفوحة، هذا وقد حفلت كتب التراث والتاريخ بذكرها حيث ذكرها الهمداني والبكري. وقد يطلق الاسم عليها بصفة الجمع فيقال: المنافيح أو منفوحات.
وذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان أن منفوحة تأسست على يد قوم من بني قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل على أرض أعطيت لهم من قبل أبناء عمومتهم بني حنيفة وذلك قبل الإسلام بعدة قرون، وقد دخلت منفوحة في القرن الثامن عشر الميلادي الثاني عشر الهجري) في حرب مع دهام بن داوس أمير الرياض الذي طرده أبناء عمومته من منفوحة والذي قاوم توسع الدولة السعودية الناشئة آنذاك لما يزيد على عشرين عاما حتى استسلمت القريتان للحكم السعودي؛ وعندما سقطت منفوحة في يد الأتراك سرعان ما غادروها، كما غادروا معها نجد، حيث إن جلاءهم عنها كان سببه الغارات التي كانت ضدهم، هذا وقد أعاد الأمير تركي بن عبد الله ضم منفوحة إلى الدولة السعودية الثانية مرة أخرى، وذلك في 1824، ثم دخلت منفوحة بعد ذلك تحت نفوذ أمراء حائل من آل رشيد، وكان ذلك قبل استعادة المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بعيد دخوله مدينة الرياض عام 1902م، وبداية الدولة السعودية الثالثة.
وتحكي مدونات التاريخ أنه تعاقب على إمارتها عدد من الأسر المشهورة من قبيلة بني قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل كالجلاليل ومنهم والد دهام بن داوس آل شعلان، كما تولى إمرتها عدد من الأسر المشهورة والتي عرف عنهم الشجاعة والبسالة والسمع والولاء لحكام الدولة السعودية في مراحلها الثلاث، وكان آخر من تولى إمرتها في العصر الحديث الأمير عبد العزيز بن سليمان بن عثمان بن سيف وهم من بني قيس بن ثعلبة من بكر بن وائل، وقد زاول في صباه مهنة الغوص في دولة البحرين وعمل بالتجارة بين منفوحة والأحساء واشتغل بالزراعة وتملك في منفوحة عددا من المزارع وكان أشهرها الرفيعة والثليمة.
وقد عرف عن الأمير عبد العزيز بن سليمان بن سيف حسن الخلق مع عفة ونزاهة وحسن السيرة مع الإدارة الرشيدة، ولا ريب فهو من رجال الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - وقد ولاه إمارة منفوحة عام 1355هـ وجاء في خطاب الإمارة ما نصه:
من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى الكرام سليمان بن مزروع وعيسى الجريوي وعبد الرحمن بن مزروع وصلطان الزمامي وعمر بن محمود وعبد العزيز بن سلامة وعبد الله بن سلامة بن مزروع وإبراهيم بن سعيد وعبد الله بن سعيد وسعود بن سرحان وإبراهيم بن سحيم وعبد العزيز بن محمود وعلي بن محمود وعلي بن محمود «أيضاً» وعبد العزيز بن محمد وعبد الله بن مزروع وعبد العزيز بن علي بن حسين سلمهم الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الخط المكرم وصل وما عزمتوا كان معلوم مخصوص من قبل إمارة عبد العزيز بن سليمان بن سيف واتفاقكم عليه فلا بأس هذا وأصلكم له خط يلتزم بإماراته إن شاء الله، وقد أوصيناه بما يلزم نرجو إن الله يوفق الجميع للخير هذا ما لزم والسلام 14/رمضان/1355هـ).
هذا وقد استمر الأمير عبد العزيز بن سيف في إمارتها حتى عام 1374هـ. وهذا يعني أنه قد تبوأ إمارتها ما يقرب من تسع عشرة سنة - رحمه الله رحمة الأبرار - حيث أصبحت هذه الديرة تنضم تحت راية العاهل السعودي الفذ الملك سلمان بن عبد العزيز - أمد الله في عمره - حينما دخلت البلدان القديمة، والدويرات التليدة - تحت قيادته حينما كان أميراً زاهراً من أمراء الرياض الشماء.
وكانت وفاة الأمير عبد العزيز بن سيف - عليه شآبيب الرحمة - في الثامن من شهر رمضان المبارك من عام ألف وأربعمائة وألف، وخلف عقبا صالحا فله من الأولاد الذكور عبد الله ومحمد ومن الإناث خمس وهن على التوالي: هيا، وطرفة، ونورة وموضي وجواهر وفزة، وزوجته التي توفي عنها هي المرحومة - بإذن الله - منيرة بنت الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن سالم من كبار علماء الحاضرة النجدية، باحث جليل من باحثي الفقه الشرعي، وقاض في كثير من بلدان نجد المتسامية، وكان - يرحمه الله - المرجع والمقصد في كل من القضاء والفتوى والتدريس والوعظ والخطابة في كل بلدة يرخي زمام التطواف، وعصا التسيار فيها، وقد ولد في بلدة منفوحة الناهضة وغدا» فيها عالمها النحرير إلى جمهرة من علماء منفوحة الذي يشار لهم بالبنان، ويحكي عنهم التبيان.
وقد شهدت منفوحة عددا من رجالات التعليم والدين والقضاء، ومن مشايخها إلى جانب الشيخ عبد الرحمن بن سالم الشيخ عمر بن محمود والشيخ عبد الرحمن بن محمود والشيخ عبد العزيز بن سعيد وغيرهم حاضر في ذاكرة التاريخ، ومدونات الراحلة والمترحلين.
هم رجال عاشوا تاريخها فعصرهم وعصروه، فحفظ لهم التاريخ جميل السبق، وعميق الأثر، شاخت بهم السنون، ولم تشخ بهم الذاكرة.
منفوحة اسم محفور على جبين التاريخ، وفي قلب الجزيرة العربية، لها صيتها فرجالاتها من الهمم في تخليد ذكراها، هي دويرة صغيرة تنسجها لوحة الذكريات فيما يمتد لأكثر من أربعين ربيعة ونقشتها على أسواقها، وشوارعها، ومزارعها وبواباتها ولا سيما الجنوبية منها، ومسجد القبلي والقرين ومجبب حسن، وساحة والقرن الحويطة، ولا غضاضة فهي من الأعشى وبها وفيها بيته ومربط ناقته وقبل تيك وتاك شعره.
تلكم هي منفوحة العطا، في مهب الصبا، منازل ضيقة، وشوارع عتيقة، ومعالم احسبها الزمان تليدة مجيدة، هي موطن الشعراء، وملهمة البلغاء.
هي مسقط رأس شاعرها الجاهلي الأول، أعشى قيس، قبل أكثر من ألف وخمسمائة سنة، هذا الشاعر الخالد في دهاليز التاريخ، وربوع الدواوين، الناطق بأجمل الشعر، وأروع القصيد:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها
ولا تراها لسر الجار تختتل
كأن مشيتها من بيت جارتها
مر السحابة لا ريث ولا عجل
هم رجال طاب الحديث بهم، وطال عنهم، عذبت ذكرياتهم، وسحت نسماتهم، حديثهم مشوق، وتاريخهم عذب مغدق.
لها أحاديث من ذكراك تشغلها
عن الشراب وتلهيها عن الزاد
الها بوجهك نور تستضيء به
ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا شكت من خلال السير أوعدها
روح اللقاء فتحيا عند ميعاد
** **
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى
hanan.alsaif@hotmail.com