د.عبدالله بن موسى الطاير
ستنتهي الحرب في أوكرانيا، ربما أسرع مما نتصور، ولكن ما الذي ستأخذه في طريقها وهي تلملم أشلاءها المبعثرة؟ إذا سلمنا بأن الهبة الغربية على اجتياح الروس أوكرانيا هي إجراءات لتحييد عقبة كؤود في وجه النظام العالمي المبني على الليبرالية - الديموقراطية، أكثر منها رد فعل على الاجتياح، فإن الحرب الدائرة عندما تتوقف ستطوي تحت إبطها الرئيس بوتين ونظامه عاجلاً غير آجل.
يمكننا استقراء الأحدث السابقة في السياقين آنفي الذكر؛ فعندما قررت أمريكا ومعها التكتل الليبرو- ديموقراطي هزيمة الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفيتي استدرجوه إلى أفغانستان، ورفعوا عليه كلفة الحرب وبعد عشر سنوات تقريبا هرب الجيش الأحمر من أفغانستان مهزوما في منتصف فبراير 1989م، ولم يصمد الاتحاد السوفيتي بعد ذلك سوى أقل من ثلاث سنوات. فهل سيتكرر السيناريو مع روسيا، بحيث تهزم في أوكرانيا، وبعد ذلك يبدأ العمل على الرئيس بوتين ونظامه، لتهيئة الظروف لتمدد النظام الليبرو- ديموقراطي؟ أم أن أمريكا سوف تطبق تجربتها السابقة مع صدام حسين حينما استدرج لاحتلال الكويت ومن ثم تم تقليم أظافر قوته والقضاء عليه بالتقسيط المريح؟ أم على غرار غزو روسيا شبه جزيرة القرم واحتلالها عام 2014م، حيث اكتفى الغرب بعقوبات لم تؤثر كثيرا في روسيا؟ وعطفا على السابقتين الأخيرتين تنسحب روسيا مما تشاء من أراضي أوكرانيا نظير بقاء بعض العقوبات الرمزية وتعود دورة الحياة إلى سابق عهدها قبل 24 فبراير 2022م. السياق الذي تم التعامل فيه مع صدام حسين عام 1991م ومع احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014 لم يكن بمثابة التحدي الوجودي للنظام العالمي، وإنما أزمتين تم التعامل معهما بالقدر الذي يتناسب وحجمهما.
لا تنبئ العقوبات القاسية على روسيا بأنها مؤقتة، ويمكن التراجع عنها بمجرد انسحاب روسيا من أوكرانيا، بل تذهب بعض التحليلات إلى ما كنتُ أشرتُ إليه في مقالات سابقة من عدم قدرة ثلاثة أنظمة على الجوار والتعايش، ورغبة أمريكا إثبات أن نظامها العالمي القائم على الليبرالية - الديموقراطية لا زال قادرا على الحياة لفترة قادمة شريطة إزالة المعوقات الضاغطة على أنفاسه، ومنها روسيا. وفي تحليل طويل للحرب الحالية تطرح صحيفة نيويورك تايمز تساؤلات عن مدى قدرة أمريكا على إنعاش نظامها العالمي البالغ من العمر نحو 75 عامًا. وتقول الصحيفة إن النظام العالمي الليبرو - ديموقراطي باق على قيد الحياة بفضل أجهزة الإنعاش. ويعرف الروس والصينيون ذلك، ويعترف بوضع النظام الحرج الأمريكيون أيضا. لقد وصف الرئيس بايدن في خطابه الافتتاحي يوم تنصيبه الديمقراطية بـ»الهشة»، وزعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عامين أن «الفكرة الليبرالية» قد «تجاوزت هدفها»، وامتدح الرئيس الصيني شي جين بينغ قوة الدولة، وعبر عن الثقة بنظام الصين السياسي القائم على الاستقرار، وليس تداول السلطة.
وبالقدر الذي نتمنى أن تنتهي الحرب بسرعة، وأن يخرج العالم منها وهو أقدر على صناعة نظام عالمي متعدد الأقطاب، فإن المؤشرات تأخذنا إلى أبعد من المظاهر، وتضعنا أمام صراع وجودي يتوقف على نتيجته مصير النظام العالمي الحالي أو مصير المناوئين له؛ وأعني بذلك روسيا والصين. تقودنا الأمنيات إلى وضع الطرفين الروسي والغربي في كفتين متوازيتين، لكن الحقائق تسجل خلاف الأمنيات، فظهور روسيا الدولة النووية العظمى ووريثة القطب الثاني الذي شارك في إدارة النظام العالمي ردحا من الزمن، بمظهر بائس في الأمم المتحدة، لا يصوت معها سوى أربع دول ضعيفة، يعزز الادعاء بأن روسيا لم يعد لها حظوظ في مقاومة النظام العالمي القائم، ولا هي حتى قادرة على تقرير مصير نظامها السياسي. وهذا يعني بالضرورة إنعاش النظام العالمي الحالي وجريان الدماء في شرايينه لسنوات قادمة على حساب النظام الروسي، وهي النتيجة الأقرب إلى التوقع.
ليس موضوعيا ولا صحيحا أن روسيا كشفت زيف النظام العالمي الليبرو - ديموقراطي وعرّته أمام الرأي العام العالمي، فقد كان محل سخرية وتندر من قبل، وتجاوزاته على الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة معروفة للجميع، وما فعلته روسيا ليس فضح النظام الليبرو - ديموقراطي، وإنما أظهرت ضعفها وقلة حيلتها عندما دفعها هذا النظام العالمي الحالي دفعا إلى حيث يريد، لينقض عليها بعقوبات لا قبل لها بها على المدى البعيد.