مشعل الحارثي
تمر بنا في مثل هذه الأيام الذكرى العاشرة لرحيل صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية الأسبق رحمه الله وتصادف هذه الأيام ذكرى رحيله بعد أن ترك سموه في نفوسنا أثراً بالغاً لا يمكن نسيانه مهما تطاول الزمن وبما جسده طوال حياته من صورة مشرقة لقامة رفيعة المستوى كإحدى القيادات السعودية البارزة وشخصيات الدولة الفاعلة والمؤثرة في مسيرة وعجلة البناء والتنمية في المملكة العربية السعودية.
لله (نائفنا) العظيم مسيرة
ميمونة نصعت بما هو أجمل
من عهد والده وأخوته انبرى
عملاق دولته عليه تعول
وكما عرف عن سموه اهتمامه بالنواحي الأمنية من منطلق مسؤولياته التي أوكلت إليه وكونه الرجل الأول المسؤول عن أمن البلاد (وزير الداخلية)، وما تحقق لسموه من عظيم المنجزات في هذا القطاع الذي انعكس بدوره على رخاء الوطن واستقراره وانطلاقته الحضارية المشرقة، إلا أن البعض قد يجهلون مدى ما كان يتمتع به سموه رحمه الله من ثقافة واسعة وحب للكتاب وعناية بشئون الإعلام والثقافة والمثقفين، والتي استقى جذورها من عدة مصادر فقد كان لتعليم سموه وتربيته في مدرسة والده الملك عبدالعزيز آل سعود غفر الله له وتكوينه الديني وما كسبه من تجارب وخبرات، أكبر الأثر فيما تمتع به سموه من فصاحة ولباقة وطلاقة في حديثه، وكان لاهتمامه الشخصي بتثقيف نفسه وحبه للعلم والاطلاع والمعرفة الواسعة عن طريق القراءة التي ولج إليها من كل أبوابها وأطل عليها من كل نوافذها المشرعة أثره الواضح أيضاً في تكوينه المعرفي والثقافي حتى أصبح مدرسة ومرجعاً ثرياً بالتجارب والخبرات.
قد ثقفته مدارس وتجارب
في ثلث قرن جاد في اروائه
وغدا بخبرته وثاقب فكره
للدارسين العلم في اثرائه
والأمير نايف بن عبد العزيز ومنذ ريعان شبابه مولع بالثقافة متابع للمثقفين والكتاب بالصحف حفي بالكتاب وكما أشرنا أنفاً فقد احتل الكتاب في نفسه مكانة كبيرة، واستطاع أن يغرس في أبنائه حب الكتاب والثقافة والمعرفة فأصبح أمراً راسخاً في حياتهم، وقد أشار لهذا الجانب صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز أمير المنطقة الشرقية فقال: كان الأمير نايف رحمه الله يغذي في واخواني حب القراءة وكان ممن يحب القراءة، والكتاب لا يفارقه في حله وترحاله وأهم كتاب كان يقرأ فيه كل يوم وكان لزاماً علينا أن نقرأه كذلك كتاب الله حتى أصبحت عادة راسخة، وكان يمدنا بالكتب كل على قدر سنه وميوله ولا يكتفي بتزويدنا بالكتب، بل كان يسألنا ماذا فهمنا؟ وماذا أدركنا وتعلمنا؟، وكانت لديه مكتبة كبيرة ويختار لنا منها الكتب لكن لا يفرض علينا كتاب بعينه، وكنا نقرأ في جميع العلوم في الأدب والشعر وعلوم الحياة وبعض القصص والروايات ولم يكن يضيق علينا فيما نقرأ فيما عدا كتاب الله الذي كان لا يساوم عليه(1).
وعن الروافد التي غذت الشغف المعرفي وحب الثقافة والكتاب لدى الأمير نايف بن عبدالعزيز يقول الدكتور عبدالله بن إبراهيم العسكر: لقد ساعد في إثراء التراكم المعرفي لدى الأمير نايف رافدين اثنين الأول: حبه للقراءة فالقراءة من هواياته المحببة، وهو يقرأ كل ما يقع تحت يده، والرافد الثاني إحاطة مجالسه بكوكبة من المثقفين والعلماء في تخصصات مختلفة فلا يخلو مجلس من مجالسه من حديث علمي أو فكري أو ثقافي، ولا يخلو من أحاديث سياسية مركزة، ومجالسه تشبه مراكز العصف الذهني في الغرب(2).
وكان من حرص سموه واهتمامه بالكتاب أنه في ترحاله وزياراته للبلدان العربية وهو في ريعان شبابه يحرص كل الحرص على زيارة المكتبات ودور النشر الكبيرة ويطلع على الجديد بها ويقتني مما تجود به من كتب وإصدارات وما تزخر به من علوم ومعارف، ومن ذلك زيارته لدار المعارف بمصر عام 1956م،التي استقبله فيها آنذاك مدير الدار شاعر الأهرام المعروف الأستاذ محمد عبد الغني حسن محيياً ومرحباً نيابة عن أصحاب الدار ومرافقاً لسموه حتى مغادرته لها، وتدور الأيام دورتها فيحل شاعرنا وبدعوة من وزارة الإعلام السعودية ليكون ضيفاً عليها في عام 1397هـ - أكتوبر عام 1977م أي بعد مضي (20) عاماً على تلك الزيارة، وحرص الشاعر محمد عبدالغني كل الحرص خلال هذه الزيارة على لقاء الأمير نايف بن عبدالعزيز ليعيد لسموه مرة أخرى تلك الذكرى الغالية عليه والتي أرخها بقصيدة رائعة يشير فيها إلى مدى تعلق سموه بالكتاب وبالثقافة قبل أن ينشغل بمهام وزارة الداخلية وأعبائها ومهامها الجسيمة وفيها يقول:
ذكرتك في (دار المعارف) زائراً
فكنت بها والله أكرم طائف
حللت بها ضيفاً وأشرقت كوكباً
وافضلت فيها بالندى والعوارف
ترى الحرف فيها بالبلاغة ناطقاً
يزين بالأفكار سود الصحائف
وتلقى ثمار الفكر من كل تالد
يطل على الدنيا ومن كل طارف
وما زلت تواقاً إلى كل مطلع
يطالعني بالثمين من وجه (نايف)
لقينا لديه الأمس ركناً لعاكف
ونلقى لديه اليوم أمناً لخائف
لقد انعكس حب سموه للقراءة والاطلاع على فصاحته وأسلوبه المميز في المحاورة، وما يتمتع به من دهاء وعمق في الإعجاز والإيجاز، وقدرته على ايصال المفهوم للمتلقي بأقصر الطرق وأوضحها وليس أدل على ذلك من تصريحاته الإعلامية لوسائل الإعلام وفي ذلك يقول الشاعر محمد الجنباز:
ومحاور يعطيك خالص فكره
فسلوا الصحافة عن بديع لقائه
وحديثه تصغي إليه لزخره
هو متعة الأسماع في إنشائه
عمق وتحليل ونظرة فاحص
يستشرف الآتي بحدس دهائه
لقد حبا الله سمو الأمير نايف بن عبدالعزيز إلى جانب حسه المرهف فكراً نيراً وثباتاً في كل الأحوال والمواقف والأزمات فهو ممن يعطي كل موقف ما يناسبه ويستحقه من العناية والاهتمام.
قد حباه الله فكراً نيراً
وثباتاً وشعوراً مرهفا
يعمل العقل كذا القلب له
في أمور ولكل موقفا
وإلى جانب ما يتمتع به سموه من منطق ملهم حكيم بعيد عن اللجج والالتباس على الآخرين فإن من قمة بلاغة سموه وفصاحته عندما يصمت، وقد عرف عنه أن في صمته ذاك أبلغ رسالة وتعبير وتفسير ما لم يستطع الخوض فيه، لأنه يرى أنه لا جدوى ولا طائل من وراء هذا الحديث فيعرض عن ذلك بصمته ونظراته العميقة التي يفهم الحاذقون منها مضمون تلك الرسالة الصامتة وما ترمي إليه من حكمة وبلاغة وتوجيه.
فصيح له منطق ملهم
إذا التبس الأمر عند الخبير
يقول فيوجز عن حكمة
تجب هويني اللجاج الفطير
ويصمت والحكم في صمته
وتفسير معنى السؤال الأخير
وكما كان لسموه دوره الواضح في دعم الأنشطة الثقافية والمعرفية، فقد كان للمثقفين ورجال الإعلام والكلمة مكانتهم وتقديرهم الخاص لدى سموه بحكم رئاسته للمجلس الأعلى للإعلام، فهو يلتقي بهم طوال العام وفي أغلب المناسبات، ولا يكاد ينقطع عنهم يستمع لهمومهم ويعالج مشاكلهم ويسهم معهم في كل ما يعلي شأن الحرف والكلمة ويعزز سمعة ومكانة البلاد.
ويذكر لسموه أنه خلال زياراته الخارجية يحرص على لقاء بعض المفكرين والمهتمين بالثقافة والتاريخ والأدب كزياراته للشاعر الكويتي الشاعر عبدالعزيز البابطين كلما زار دولة الكويت الشقيقة، ومن المزايا الفريدة التي انفرد بها الأمير نايف بن عبدالعزيز أنه أرسى مدرسة خاصة به في الخطاب الإعلامي الأمني عمن سواه من وزراء الداخلية في العالم، والذين تكون كلماتهم دوماً محسوبة بدقة وتصريحاتهم لوسائل الإعلام محدودة جداً، إلا إن خطاب سموه تميز بالدقة والوضوح والشفافية واختيار الألفاظ المناسبة واعطاء كل موضوع حقه من التعاطي الراقي المتوازن.
كما انعكس حب واهتمام سموه بالثقافة والمعرفة على وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية التابعة لها فقد حرص سموه على تعليم وتثقيف منسوبي الأجهزة الأمنية على اختلاف مستوياتهم ورتبهم العسكرية أو المدنية وكانت توجيهات سموه تقضي بأهمية تنويع الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الثقافي لدى منسوبيها وتأمين نشر الصحف والمجلات في صالات الانتظار، وتوزيعها على كبار المسؤولين، وإصدار المجلات والدوريات المتخصصة في كافة مجالاتهم التخصصية، ووضع الحوافز المشجعة على العلم والقراءة وتنظيم المحاضرات والندوات التي يدعى لها كبار العلماء والأدباء والمثقفين.
رحم الله شاعر الأهرام الذي أعادنا بتلك الأبيات لاستذكار جوانب من شخصية الأمير المثقف نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية ورجل الأمن الأول وأسد السنة وأسكن سموه الفردوس الأعلى من الجنة.
... ... ... ... ...
(1) من محاضرة للأمير سعود بن نايف بن عبد العزيز في معرض نايف القيم - الاثنين 19 شعبان - 1438هـ.
(2) جريدة الرياض - العدد 14893 - الجمعة 7 ربيع الآخر 1430هـ.