محمد سليمان العنقري
مع اشتداد المواجهات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا التي تجري احداثها على ارض الأخيرة منذ عشرة ايام دون حدوث اي تراجع فيها، اذ لم تصل المفاوضات التي تجري بين الطرفين لأي نتيجة يمكن البناء عليها للتوصل لايقاف العمليات العسكرية والدخول لمرحلة الحل السياسي بينهما، وفي الوقت الذي تصر فيه روسيا انها ستحقق اهدافها لتحفظ أمنها القومي، كما أوضحت بأكثر من مناسبة لتوضح سبب نشوب هذه المواجهة العسكرية، حيث ان لها مطالب أمنية قدمتها منذ اسابيع بينما الجانب الاوكراني ينظر الى تلك المطالب بأنها تمس سيادة دولتهم وان من حقهم تقرير مصيرهم في توجهاتهم المستقبلية بالانضمام لحلف الناتو الذي ترى روسيا في مطالبتها هذه انها تهديد وجودي بالنسبة لها، فيما يقف المجتمع الاوروبي واميركا وكندا واستراليا واليابان كداعمين لاوكرانيا، حيث اتخذوا تدابير عديدة شملت دعمها بالاسلحة والاموال ولكن تظهر العقوبات التي اتخذت سريعاً ضد روسيا هي الملفتة بتداعياتها وحجمها وسرعة تطبيقها.
فعملياً الغرب بقيادة اميركا بدأ المواجهة مع روسيا عبر ما يمكن تسميته « بحرب العقوبات « فمن المعروف ان التحالفات الكبرى كحلف الناتو لديهم خطط لمواجهة اي ازمات بحيث يتم تفعيلها حسب تطورات كل ازمة، وذات الامر تضعه بكل تأكيد روسيا فلديها ايضاً خطة لمواجهة اي تحديات او اجراءات تحتاجها عند اي حدث، وفي الازمة الحالية التي تطورت لحرب فإن فرض دول الناتو ومن تحالف معهم ضد روسيا لعقوبات سريعة ومتنوعة تبدو انها معدة بعناية تستهدف تأثيرا متعددا على الحكومة والشعب الروسي، فقد منعت 34 دولة الطيران المدني الروسي من عبور اجوائها او الوصول لمطاراتها، مما سيعني تأثيراً بالغاً على التجارة الروسية مع اكبر اقتصادات العالم، وايضا سيمنع وصول المواطنين الروس لدول عديدة لديهم مصالح فيها كالتعليم او التجارة او لغرض السياحة، يضاف لذلك ايضاً منع بواخر روسية من الرسو بموانئ العديد من تلك الدول، يضاف لذلك ايقاف بعض البنوك الروسية عن الارتباط بنظام سويفت العالمي مما يعني حرمانها من عمليات التحويل، وهذا بدوره سيجعل المتعاملون الروس يهربون من تلك البنوك لانجاز اعمالهم، مما قد يتسبب بتراجع حاد بأعمالها يؤثر على استمرارها، كما قامت عشرات الشركات العالمية بايقاف تعاملاتها مع روسيا مثل آبل ومايكروسوفت وسامسونج والعديد من شركات التكنولوجيا الكبرى، وكذلك شركات السيارات الكبرى مثل الاوروبية والامريكية، كما ستشمل العقوبات حرمان روسيا من استيراد التكنولوجيا الغربية والبدء بتقليص اعتمادهم على الغاز والنفط الروسي، حيث وضعت دول اوروبية خططاً فورية لذلك وتستهدف بمجملها خفض وارداتهم من غاز روسيا بما يقارب 50 بالمائة خلال اعوام قليلة جداً عبر اجراءات عديدة بعضها كانت خططاً طويلة الاجل، سيتم التعجيل بتطبيقها، بينما تعلو اصوات امريكية تطالب حكومة بلادها بخفض او وقف استيراد النفط الروسي الذي يقدر بحوالي 530 ألف برميل يومياً، وهو ما تسبب بإقفال اسعار النفط على اعلى اسعار لها منذ قرابة عشرة أعوام بنهاية الاسبوع الماضي عند 118 دولاراً لخام برنت و115 للخام الامريكي نايمكس.
فالاستمرار بحرب العقوبات قد لا ينعكس بتأثيرات بالغة في وقت قصير على روسيا لكنها بكل تأكيد ستترك اثراً على المدى المتوسط والطويل لو استمرت، فمن بين العقوبات ما طال تجميد مفاصل مالية روسية مهمة هي اصول الصندوق الاستثماري السيادي في بريطانيا، وكذلك مجموعة من البنوك التجارية، وايضا عقوبات ضد البنك المركزي الروسي مما افقد الروبل اكثر من 40 بالمائة من قيمته في ايام قليلة، واضطرت روسيا لاخذ اجراءات صارمة في الحوالات المالية بقصد التجارة او الطلب على الدولار للحد من تدهور الروبل، بالاضافة لعقوبات طالت رجال اعمال روس يعتقد ان لهم علاقة بالحكومة الروسية حيث عاقبت اميركا 50 رجل اعمال روسياً، وكذلك فعلت بعض دول اوروبا، فإذا كانوا فاسدين بنظرهم حسب ما وجه لهم من اتهامات تبرر القرارات بحقهم لماذا سكت عنهم سابقاً وكان مسموحاً لهم العمل والاستثمار بأسواق اميركا واوروبا! فهذه السرعة في التوسع بالعقوبات تهدف للوصول بتأثيرها مباشرة على المواطن الروسي ليشكل ضغطاً على الكرملين لايقاف الحرب، لكن فرض هذه العقوبات يطرح تساؤلاً حول قانونية بعضها، وكذلك حول مستقبل استخدام هذا السلاح الذي يعتبر فتاكاً لتدمير اقتصاد اي دولة، ويترك آثاراً سلبية لا يمكن معالجتها بسهولة، فهل بدأت هذه القوى استخدام هذا السلاح بدلاً من الحروب العسكرية فسلاح العقوبات ليس بجديد لكن ما يحدث حالياً لا يقتصر على الحكومات بل بدأت الشركات الخاصة باعلان قطيعتها لروسيا وممكن ان يتم تفهم ان هذه الدول منحت القطاع الخاص ادارة الاعمال وتنشيط الاقتصاد تحت رقابة واشراف الحكومات، الا ان تلك الشركات يبدو انها ملتزمة بان تكون شريكاً في توجهات الدول التي تنتمي لها في بعض الاحداث السياسية، وهو ما يمثل تطوراً نوعياً في الاسلحة التي بدأت تلك الدول باستخدامها، فشركات التقنية والتكنولوجيا قد تشل بتوقفها عن التعامل مع اي دولة جزء رئيسي من اقتصادها، ويصعب تعويض خدماتها ولذلك قامت الصين بوضع خطة استثمارية للاستقلال التكنولوجي العام 2035 بزيادة الانفاق على هذا القطاع بنسبة 7 بالمائة اضافية سنوياً لما ينفق حالياً حتى لا تكون تحت رحمة الشركات الغربية، فهيمنة هذه الشركات اصبحت كبيرة وهو ما يبرر وصول قيمها السوقية لتريليونات من الدولارات فقيمة ابل ومايكروسوفت السوقية تعادل حجم الناتج الاجمالي لالمانيا رابع اقتصاد عالمي، بل ان العقوبات طالت روسا رياضياً وهو ما يطرح تساؤلاً محوره هل للسياسة تأثير بقرار المنظمات الرياضية الدولية رغم انها تؤكد دائماً على الفصل بين الرياضة والسياسة؟!.
روسيا لديها أيضاً قدرة على الاضرار ومعاقبة اوروبا بل والاقتصاد العالمي فهي ليست فقط من اكبر مصدري الطاقة بالعالم بل ايضا السلع الغذائية كالقمح والحبوب التي ارتفع سعرها بنسب عالية خوفاً من نقص الامدادات، بالاضافة لبعض المعادن المهمة كالبلاتين والبلاديوم المهمة لصناعة السيارات، وكذلك غاز النيوم المهم لصناعة اشباه الموصلات الذي تعد اوكرانيا اكبر الدول المصدرة له عبر شركة كربون التي تقع في مدينة اوديسا، فالحرب الحالية اظهرت وجهاً اكثر خطورة من الآلة العسكرية فالاقصاء الاقتصادي التدريجي لدولة كبرى مثل روسيا يعني انه رسالة لدول أخرى مثل الصين التي تراها اميركا المنافس الوحيد لها، وهو ما يعني اننا امام خطر كبير يتهدد الاستقرار الدولي اذا اصبحت مثل هذه القرارات تتخذ خارج اطار الانظمة الدولية وتهميشاً لدور المنظمات الدولية التي يفترض انها تحفظ سيادة الدول وتحكم العلاقات بينها.