حمّاد بن حامد السالمي
* بل هي مهمات لا مهمة واحدة على ما يبدو.. كم من الكلاب تقوم حارسة أمينة على أملاك الناس في مدنهم وقراهم وبواديهم، فلا تغدرهم ولا تخونهم، وكم من الناس؛ إذا تولوا هذه المهمّة؛ خانوا وغدروا. وكم من الكلاب وقفت دون تهريب المخدرات والمحظورات في الموانئ والمطارات، وأنقذت حاستها الشمية ملايين البشر من كثير من المهلكات. كم وكم.. حتى قيل في هذا الحيوان الأليف أمثال وأشعار، وكتب كثيرون يذكرون الكثير من قصص إخلاصه ووفائه مع الإنسان. وحتى تجرأ الشاعر علي بن الجهم، فوقف أما الخليفة العباسي المتوكل مادحًا فيقول:
أنت كالكلب في حفاظك للودِّ
وكالتيس في قراع الخطوبِ
* ومن هؤلاء الذين أوردوا عجائب وفاء وغرائب هذا الحيوان: (أبو بكر بن المرزبان ت 309هـ)، فكتابه: (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)؛ كتاب غريب عجيب طريب، وفيه من القصص ما يصل إلى درجة الخيال. ومع كل ذلك؛ ظل الناس يتسابُّون بينهم، وينتقص بعضهم من بعض فيقول: فلان كلب..!
* اقتنيت هذا الكتاب مطلع العام 1407هـ. قرأته وتأثرت بلغته وأدبه وقصصه، وربطت بينه وبين قصة خبرية أعددتها لصحيفتي السابقة (الندوة) منتصف التسعينيات الهجرية تحت عنوان: (علاقة الإنسان بالكلب في خطر)، واعتمدت فيه على تقرير صحي من مستشفى الصحة الصدرية بالطائف، يشير إلى علاقة الكلاب ببعض الأمراض الصدرية التي تظهر على الناس وقتها. كنت مندفعًا للغاية، وأخذت في التقرير موقفًا حسبته منصفًا للكلاب؛ لكن أستاذي ومعلمي الأول في الصحافة (حامد مطاوع) رئيس التحرير - رحمه الله- كان له رأي آخر، فخفف من اندفاعي، وظل هذا الموضوع في ذهني حتى قابلت الأستاذ الكبير (مصطفى أمين).. أستاذ الأساتيذ في الصحافة العربية. يومها.. دخل موضوع الكلاب في النقاش بيني وبينه صدفة، ولم أضمنه اللقاء الطويل الذي أجريته معه ونشر بصحيفتي الجديدة بعد الندوة (الجزيرة)، الذي نشر بـ(عدد 5132 صفحة 17 بتاريخ 14 صفر 1407هـ). خشية عدم النشر.
* كان الأستاذ (مصطفى أمين) يزور الطائف صائفة العام 1407هـ بدعوة من سمو الأمير (بدر بن عبدالعزيز آل سعود) - رحمه الله- نائب رئيس الحرس الوطني، والذي كان من محبي رجال الإعلام والأدب والصحافة، وله علاقات جيدة مع كبار الإعلاميين والصحافيين العرب وبخاصة من مصر. كان الضيف الكبير يسكن في نُزُل (مسرة إنتركونتننتال الطائف)، وزرته بصفتي الصحافية، فالتقينا في بهو النُّزُل، وكان يتصفح نسخًا من الصحف السعودية ويضحك ويقول: (إيه حكايتكم مع الحمير والكلاب)..؟ يومذاك كنا ننشر في صحافتنا عن حملات تقوم بها بلدية الطائف. تجمع فيها الحمير فتجليها عن الطائف إلى جهات بعيدة، ولكنها تلاحق الكلاب بالرصاص وتقتلها. كانت حملة قوية. حاولت أن أوضح له معاناة السكان من كثرة الكلاب، ومن اعتداءات الحمير، لكنه لفت نظري إلى مهام الكلاب وعلاقتها بالإنسان منذ الأزل، وذكرني بكتاب (ابن المرزبان) سابق الذكر فقلت له أني قرأته. وانتهى نقاشنا إلى حوار مصور ومسجل للجزيرة: (قراءة في مكتبة)، فكان الكتاب العربي وشجونه ومكتبته الخاصة محور حديثنا الطويل.
* ما الذي عاد بي إلى مصطفى أمين وتلك الأيام قبل سبعة وثلاثين عامًا فرطت..؟ عدت مؤخرًا إلى قراءة ثانية لبعض كتب مصطفى أمين، ومنها كتابه الرائع: (الـ200 فكرة)، ووصلت إلى قصة كلب يرويها بأسلوب شائق تحت عنوان: (اضحك.. يضحك لك العالم)، فإذا به يعود بي إلى لقائنا ورأيه في هذا الحيوان، حتى لو جاءت القصة في سياق فكاهي. يقول في القصة الطريفة: (لي صديق إنجليزي كان يشعر بتعاسة لا حد لها إذا رأى زوجته تقطّب وجهها. كان وجهها المكفهر ينكد عليه الحياة، إذا خرج من البيت أحس بانقباض طول يومه، وإذا عاد إلى البيت ووجدها عابسة؛ بقي في فراشه يتقلب ولا يستطيع النوم..! ولم يكن يحبها إلى درجة أنه لا يطيق رؤيتها عابسة، وإنما كان يتشاءم من العبوس، ويتفاءل من الوجه الباسم، وكان يعمل مديرًا في أحد بنوك لندن، وكان يصر أن لا يعين في البنك إلا الوجه الضاحك، ويفضله على صاحب أكبر الشهادات وأكثر الخبرات، وكان يبحث دائمًا عن أية رحلة يكلفه بها البنك خارج لندن لينجو لبضعة أيام من تكشير زوجته العابسة. وعندما تقدم به العمر؛ أصبح لا يستطيع مغادرة لندن بسهولة، واستطاع أن يتفق مع أحد مدربي الكلاب على أن يدرب له كلبًا إذا رأى زوجته عابسة هجم عليها وأخذ ينبح..! ولا يتوقف الكلب عن النباح إلا إذا توقفت الزوجة عن العبوس..! ونجحت هذه الطريقة الغريبة، وعبثًا حاولت الزوجة أن تطرد من البيت هذا الكلب الذي يتدخل فيما لا يعنيه)..!
* يضيف مصطفى أمين: (وذات يوم؛ دعاني الصديق إلى العشاء معه في بيته الأنيق في حي مايفير، وقصت علي الزوجة قصة هذا الكلب وقالت: إنه جعل حياتها لا تطاق..! لقد أفقدها الكلب حريتها في أن تعبس وأن تكشر كما تشاء..! ودهشت من تمسك الزوجة بحقها في العبوس، وذهلت أنها تقول أنها تستريح وهي عابسة الوجه، وأنها تشعر بألم في فكها عندما تبتسم أو تضحك..! وظننت أن السيدة تمزح، ولكنها أكدت لي أنها لا تتصنع العبوس، وأنه أصبح طبيعة فيها، وأنها وهي تلميذة في السابعة من عمرها؛ ضحكت في الفصل، فعاقبتها المعلمة عقابًا صارمًا بقي راسبًا في روحها طول حياتها، وأصبحت إذا حاولت أن تضحك؛ أحست بآلام حادة في وجهها وفكها وأسنانها، وذرفت عيناها الدموع..! وقال الزوج: إنه صحب زوجته إلى طبيب نفساني في لندن وقال له الطبيب: إنه لا يمكن شفاء الزوجة من عبوسها الدائم..! ولكن الغريب أن الكلب نجح فيما فشل فيه أكبر طبيب نفسي في لندن)..! هذا الكلب نجح في (مهمة صعبة).
* قلت بعد إتمام قراءة المقال للمرة الثانية: كم في حياتنا من العابسات والعابسين، والمكشرات والمكشرين، ممن هم وهنَّ في حاجة إلى كلب من نوع هذا الكلب اللندني، ينهض بهذه المهمة الإنسانية..؟! فكثير من المهام ينجح فيها كلب؛ ويفشل فيها من ينعت غيره بكلب..!