تتيح لك بعض الظروف ملاقاة بعض الشخصيات الثقافية التي لا يمكنك أن تنساها أبدًا، لا سيَّما إذا ما عاشرتها مدة من الزمن، وتأكد لك أن أسباب اللقاء كانت مثمرة، وأن العلاقات ستظل متواصلة، مع تلك الشخصية، رغم مرور الأيام والسنين. هذا ما وقع لي مع الدكتور محمد القسومي. كان اللقاء به عن طريق طلب استكتاب للعمل في قسم الأدب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بالرياض، سنة 1431هـ / 2010م، وكان وقتها رئيس القسم، برسالته التي وجهها لي ولأستاذي الدكتور محمد مفتاح في الوقت نفسه. لم تكن عندي صورة واضحة عن جامعة الإمام؛ لكن بعد أن قرأت الرسالة بتمعن وكانت لغتها جميلة ولطيفة وبليغة، وفيها الكثير من «الصواب»، كما نقول في لهجتنا المغربية. لم تثرني الدعوة في حدِّ ذاتها، لأول وهلة، ولكن ما استرعى انتباهي هو الاسمان: محمد مفتاح، وسعيد يقطين. واستنتجت أن الاختيار مقصود، وأن الرغبة في إعطاء قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الإمام بعدا مختلفا، لا يمكن إلا أن يدفعني إلى قبول الدعوة، والانخراط في التجربة. كان في اختيارنا معا، بطريقة ضمنية، قبول دخول السيميائيات والسرديات إلى القسم. اتصلت بالأستاذ مفتاح، فعبر بدوره عن أهمية الدعوة، واستجابته لها. فكان ذلك محفزا لي للاتصال بالدكتور القسومي، والتعبير عن قبول الدعوة. وكان في ذهني تحقيق غايتين اثنتين: أولاهما الانخراط بحماس في المقاصد الإيجابية للقسم، عبر التّوجه الجديد الذي اختطته الجامعة برئاسة «أبا الخيل»، من جهة، ومن جهة ثانية، ملازمة أستاذي مفتاح خلال فصل كامل، وعن كثب، للاستفادة من آرائه وأفكاره، وتعميق الصلة به؛ ولكن -للأسف- اعتذر الدكتور مفتاح لأسباب صحيّة، وطلب منّي إبلاغ الزملاء في القسم اعتذاره. وقرّرت المغامرة بفقدان إحدى الغايتين من القبول.
كان اللقاء فجر ذلك اليوم الذي لا يمكنني أن أنساه أبدا ما حييت، إذ وجدت الأستاذ محمد القسومي في انتظاري، وعندما رأيته تصورت أنّني أعرفه من قبل، فلن أنسى ابتسامته الوضَّاءة، وترحيبه اللطيف ومدى تأثيرهما في محو كل التعب والإرهاق اللذين لازماني منذ أن ودَّعت أسرتي، وكم تفاءلت خيرًا من محياه وكلامه!
1. البسمة الدائمة
ما أحسست قط خلال كل الفصول التي درستها في جامعة الإمام بأنّني غريب عن بلدي. كان كل الزملاء من السعوديين، أو التونسييْن صالح بن رمضان ومحمد القاضي، وغيرهما من الأساتذة العرب من الجزائر والسودان ومصر في القسم على مستوى عال من الأريحية والمحبة. كنت أحس بأني بين زملاء حميميين وودودين إلى حد أني لم أكن أحس قط بأنني بعيد عن بلدي. بل إنني كنت أحس أني الأسعد بوجودي هنا في قسم اللغة العربية. وكان كل ذلك بسبب الدكتور محمد القسومي. إني أعرف من خلال تجاربي أن الشخص الذي يتحمل المسؤولية الثقافية له دور كبير في إنجاح التجربة، عن طريق القدرة على حسن التصرف وحل كل ما يطرأ من مشكلات، وامتلاك زمام مبادرة الحفاظ على العلاقات في المستوى الإنساني الذي تغيب فيه الحساسيات، والترفع عن التمييز بين من يتعامل معهم عن طريق الاصطفاف إلى جانب البعض ضد البعض الآخر. وهنا مكمن نجاح الشخصية الثقافية عند محمد القسومي. عرفتُ فيه الابتسامة الملازمة، والهدوء في اللحظات الحرجة، والكرم الحاتمي، إنَّك لن تراه أبدا إلا مبتسما ابتسامة صادقة ومعبرة عن فرحه بما يحيط به، ومهما كانت الظروف!
كنت وما زلتُ أشبّه ابتسامته، وضحكته البريئة بضحك وابتسام طفل بريء لا يحمل الكراهية لأحد، ولا ينوي الإيقاع بغيره.
2. قدرة امتصاص الغضب
يقول تودوروف، وهو يتحدث عن العجائبي في السرد: إن عيون البراني عن بلد ما تكون واسعة وكبيرة. إنه يرى ما لا يراه من يعيش في البلد كنتُ ذلك الرجل. فلم تكن تغيب عني أي إشارة، أو لمحة، أو معنى كلمة. كنت أعيش بكل جوارحي التجرِبة لأني كنت معنيا بنجاحها، وحريصا على ذلك أشد الحرص. وكانت شخصية محمد القسومي محور ذلك. إنه رئيس القسم. وتعطى لرئاسة القسم في المملكة سلط لا يتوافر على أي منها رئيس الشعبة في المغرب. لكني رأيت محمد القسومي يتصرف، وكأنه رئيس شعبة للغة العربية في المغرب: علاقة طيبة مع الجميع، دائم الحضور، والتفاعل مع قضايا القسم بدون تعال، أو تباه بأنه رئيس عليه أن يتحكّم في مرؤوسيه على غرار ما يقوم به بعضهم للأسف الشديد! ولم يفته أن ينحاز إلى تغليب مصلحة الطلاب، وترجيحها على أي مطلب لا يتلاءم مع ما يصب، أو يكون في خدمتهم، معتبرا دور الجامعة يتلخص في الأساس في الارتقاء بمستوى الطالب، وتوفير الإمكانات الملائمة لإبداعه وتطويره، عن طريق مساعدته وفتح أبواب الأمل أمامه. وكنت أكبر فيه هذا الوعي بمصلحة الطالب، لأني أشترك معه في وضع مصلحته فوق أي اعتبار. ولهذا السبب كنت أرى الطلبة جميعا يبادلونه الحب عينه، ويلتفون حوله، ويثمنون مجهوداته، ويقدرونها حق قدرها.
3. المشاركة الدائمة في مختلف الأنشطة
ما سأعرضه هو غيض من فيض سلوك القسومي العلمي تُجاه المشاركة الدائمة في مختلف الأنشطة؛ خاصة ما كان منه نحو الاهتمام بنشر الدراسات والكتب، فقد أخبرني مرَّة أن الكلية مستعدة لطبع كتب للأساتذة، وإذا كان عندي كتاب فهو يقدمه لقسم النشر. فكان كتاب «السرديات والتحليل السردي» الذي كانت بعض مواده، مما درسته لطلبة الماجستير الصباحي والموازي شبه جاهز، فكان أن طبعه القسم. وفي هذا السياق -أيضًا- أتذكر جيدا الشراكة التي عقدها، وهو رئيس للقسم مع النادي الأدبي بالرياض، فكان أن عقدت عدة أنشطة، كان من بينها ندوة شاركت فيها إلى جانب الدكتور القاضي، والشتوي، حول رهانات الرواية العربية، وقد توجت هذه الندوة بكتاب مشترك شاركت فيها، على شكل حوار، مع القاضي، وصدر ضمن سلسلة رؤى ثقافية.
إنَّ انفتاح الدكتور القسومي على النشاط الثقافي خارج الكلية، كان يعتبره جزءا من عمله الثقافي باعتباره، أستاذا وباحثا. ولذلك نجده ينخرط في أنشطة النادي الأدبي بالأريحية والهمة نفسها. ولقد استكتبني مرارا للمشاركة في مجلة «قوافل»، منذ أن تحمل مسؤولية رئاسة تحريرها.
4. ألف الكلام: مجلة قوافل
كانت كلمة القسومي في مجلة «قوافل»، أول ما أقرأ في المجلة، وأحيانا حتى قبل تصفح موادها. وبعد رجوعي إلى المغرب، كان بين الفينة والأخرى، يبعث لي مشكورا عددا منها إلكترونيا. كنت أرى في كل عدد تطورا عن العدد السابق، ومجهودات بارزة سواء على مستوى الإخراج، أو نوع الملفات المقترحة، أو المواد المنشورة. وكنت أرى في ذلك ترجمة لرؤيته للأشياء، وفهما عميقا لما ينبغي أن تكون عليه، ولا سيما أن زميله في إدارة تحريرها، صالح المحمود يتقاسم وإياه كثيرا من الجوانب والتصورات، بسبب العلاقات القديمة بينهما في قسم الأدب بجامعة الإمام.
إن قراءة كلمة الافتتاحية للمجلة، والتي عنونها «ألف الكلام»، تعبر بوضوح عن الدكتور محمد القسومي، الباحث. إنها تجلي نوع قراءاته، وجيد متابعاته لما يكتب عربيا، وعالميا. وفي ذلك تبدو دقة ملاحظاته، ومواقفه من المشهد الثقافي السعودي والعربي بدون تطرف أو تعال. إن سمو أخلاقه الذي يلاحظ في شخصيته ومسؤولياته الثقافية، يتحقق بجلاء في كتاباته الدقيقة والجميلة، والتي تعكس وعيا عميقا بما يعتمل في واقعنا الثقافي.
يكمن سر نجاح القسومي في عدة أشياء ألخصها أولا، في حبه للعمل الذي يضطلع به، وفي تحمله المسؤولية بصدق، ثانيا. وفي رؤيته الثاقبة إلى الواقع الثقافي والأكاديمي ثالثا. إن تحمل المسؤولية الثقافية والأكاديمية باقتدار، وبإحساس بثقل المهمة ضروري في حياة من تتوافر فيهم الإرادة والمعرفة لأنهم يسهمون بذلك في دفع العجلة إلى الأمام. لكن الاستمرار في تحملها مددا طويلة من الزمن، تعرقل اهتمام الباحث بأعماله وكتاباته ومشاريعه، فتظل مؤجلة. ومتى استمر التأجيل كان ذلك على حساب تحقق الوجه الثقافي الآخر للباحث، وهو تقديم أعماله للقراء الذي يقدرونه، وينتظرون منه مساهمة أخرى لا تقل أهمية عن تحمله المسؤولية الثقافية.
** **
أ. د. سعيد يقطين - المغرب