«الجزيرة الثقافية» - حاوره: جابر محمد مدخلي
يكتب البرد في عزّ الحر، ويصيغ المسافات على هيئة كلمات، ويصنع الفاصل بين الهضبة والجبل، ويعرف أنّ الطباعة الواحدة لكل كتاب يمكنها أن تُنقل من بيت إلى آخر، كضيوف ينزلون عليه أثناء كتابته ثم يرحلون وقد ألهموه كل شيء؛ لهذا يرى أن يطبعهم بأكثر من دار إذا لزم الأمر لقاء ما بذلته الحياة في داخله من ترسيم حدود الكتابة. سعى لأن يكون ناشرًا وكاتبًا ذات يوم ، ولكنه آمن بأنّ للكتابة قوة تأثير أدق وأكثر فحصًا للحياة والمجتمع والإنسان أكثر من النشر فقرر أن يكون الكاتب، والكاتب فقط... الروائي السعودي محمد حامد. القادم من جبال الأرض الشامخة والمُسلّم روحه وقلبه للبحر الأحمر بأكمله؛ علّه يترفق به من الغرق، بعدما حمته جبال طفولته من الانزلاق، والوقوع وعلّمته الركض على الصخور المدببة في قريته الجبلية التي خرج منها وظلّ يعود إليه عبر باروت الكتابة، وطلقات الإلهام العظيمة... روائي أنجز منجزه الرائع، وكتب كتاباته الباقية الشافعة لمسيرته وتجربته ويحلم بأن تستمر الكتابة بالتمدد على أنامله حتى لا يجد شيئًا يمارسه غيرها. وأمام هذه التحديات والإصرار والحُب والتعلق برموز الأبجدية العربية وكتابتها تسعد الثقافية بأن تستضيفه وتشرع في محاورته وإعادته عبر ذاكرة الحديث إلى ما يمكننا قراءته بعمق.. فإلى نص الحوار الذي جمعنا به:
* ولد الكاتب محمد حامد في قرية واقعة في الجنوب، فهل تجدون أن الجنوب أسهم في تشكيل بداياتكم الإبداعية؟
- نحن مواليد الجبال يلازمنا منذ البداية نزعة فطرية بالحذر والتوجس، تتشكل بيننا وبين الأرض علاقة نفعية وتبادل مصالح، نحمي نقاط قوتنا حتى يصير مقبولًا أن نعترف ونكشف نقاط ضعفنا، نرهن ثقتنا في الجبل لأنه سلم صعودنا وأول من دربنا على الاستعجال في ملامسة الغيم قبل أن يأتي المطر، مساحتنا في أن نبصرنا من زاوية مرتفعة ونطالعنا من الأعلى لنتعلم بالطبيعة أننا نعرف جزءاً من الحقيقة ونجهل الحقيقة الكاملة. نكبر والتخمين والاحتمالات لعبة يومية، وفي الوقت نفسه نتناغم مع التكرار بما يحفزنا على مقاومة الملل بابتكار خدع طرية تغيّر نسبيًا من رتابة الحكاية والروتين. نراقب أغلب الوقت لأنه لم يكن بحوزتنا الكثير لنفعله، الأغنام تسير ببطء والأشجار تنمو بهدوء والمواسم تعبرنا بتمهل، نتأمل كما لو أنها سلوتنا الوحيدة والمتاحة. في الجبال لا نملك هبات الفرص العديدة والمصادفات، نحفر لنحصل على الحقل، ونبحث عن مكان مناسب للبذرة لأننا نتعثر بالحجارة في طريقنا ونظن أن النبتة لن تهتدي لولا أن نساعدها، نقدس الصدى والظلال باعتبار أن لكل شيء أثر يستعصي على المحو، ندرك مبكرًا أن لكل مكان سماته الخاصة وتضاريسه التي تشكل حالته المتفردة، نوع أشجاره ولون شروقه وإطار ذاكرته وملامح تفاصيله. ومن كل ذلك بالتأكيد أنا محظوظ بالجنوب والجبل والريف في كل ما فعلته وسأفعله، لأني في الواقع لقد عشت كما لو أنني أكتب بلا كلمات، لقد كتبت كما لو أنني أعيش بلا صوت. أنا انعكاس، حجر في الأساس نبت في الجبل وتخلق من الصلابة، وما أفعله طيلة حياتي أن أروض هذه القسوة برهافة الشعور.
* بين روايتكم الأولى «أرواح عارية» والأخيرة «مهاد» عشر سنوات، وداران مختلفتان: طوى، وتشكيل.. فأيّ التجربتين ترونها الأنجح في الارتقاء بالمؤلف السعودي وبإيصال إبداعه مع اعتبار أنّ «مهاد» لم تُنشر إلا في 2020 ولا يزال الحكم عليها متقادمًا؟ واعتبار آخر بأنكم أعدتم طباعة جميع منجزكم الإبداعي مرةً أخرى بدار تشكيل؟
- طالما أن ارتجال الخطوة جزء من تركيبتي فإني أقلص على الدوام من مساحة الندم، حتى وإن كان المبرر الدخول إلى حيز التجريب والاكتشاف، بالمقابل لا أميل لعقد مقارنات بين محاولاتي الكتابية بسبب اختلاف ظروف النشر ونوع العمل وتوقيته. فمثلًا كتاب «أرواح عارية» نشرته في 2010 وهو عبارة عن قصص ونصوص، وصدف أنه مصافحتي الأولى للعالم وجراءة التحول إلى وضع بصمتي على غلاف، أن تعيش كلماتي عند غيري بعيدة عن متناول يدي وحاجتي للتعديل والإضافة، ويومها كانت دار «طوى» وجهة مثالية وجاذبة. «بورتريه الوحدة» الرواية الصادرة في 2011 مع دار «جداول» حققت بالنسبة لي مساحة التنبه إلى نمط مختلف من التعامل بوجود محكمين، بحيث توفر النقد وتذكرة العبور. في 2016 نشرت كتاب «ست دقائق» وهو سيرة أدبية متخيلة، وفيه رغبت اختبار قدرتي على تسويق ما أجيده ويخصني، إنما لاحظت بأن مهمتي تنتهي عند صبغ الورق بأفكاري وكلماتي، ولا تصل إلى التدخل في مصادفة القارئ لأن ذلك موعد لا أحب أن أرتبه إنما أمهد لحدوثه. ولأن اكتشاف الدهشة وتوثيقها يختلف تمامًا عن تمرير ها، لذلك أختار أن يتقاسم الآخرين معي رحلة تنقل الكتاب. وهذا تحديدًا ما عرفته بعد أن أعدت نشر العملين الأولين «أرواح عارية، بورتريه الوحدة» بعد أخذ موافقة دور النشر التي تعاونت معها مُسبقًا، ونشرتها بالإضافة لكتاب «ست دقائق» على نفقتي الخاصة من دون الارتباط بدار نشر في تجربة أن أكون الكاتب والناشر، وحينها تعلمت وقررت أن ألتزم بالكتابة فقط. أواخر 2017 نشرت تأملات ويوميات مجتمعة على هيئة عملين في كتاب واحد «قيلولة/ المربعانية» مع دار تشكيل. جددت اختيار تشكيل عندما نشرت رواية «المهاد» في 2020. وما بين دار «طوى» و»تشكيل» مسافة زمنية وتطورات تقنية وفروقات بين نوعية تجاربي، لقد تغيرت دروبي بينما كانت بالتوازي تتغير الطريقة. بعد كل هذا التوضيح فإن كل دار ساهمت في التراكم الثقافي والحضور ولها جميعها أثر مهما تفاوتت نسبته على الحركة الإبداعية، الوحيد الذي له فضل التفاعل في كل وقت هو القارئ، وصاحب المبادرة دومًا هو المؤلف.
* في روايتكم «بورتريه الوحدة» هناك اعتراف ضمني يقول: «ربما رواية، ربما تُشكل حقيقة» واليوم وبعد طباعتها أكثر من طبعة، هل يمكننا الإفصاح عنها رواية كانت أم حقيقة؟
- المسافة بين الحقيقة والخيال في الحكاية ضبابية، القارئ يعامل كل ما يمس شعوره وتجاربه بأنه حقيقة مطلقة، ويحاكم ما يثير استغرابه بأنه متخيل ولا يحدث. «بورتريه الوحدة» هي حقيقة لحظة كتاباتها ورواية بعد نشرها. القصة ومساحة تصديقها أمر يتجاوز نوعية الأحداث وتكنيك الحبكة لأنه يتعلق بالتفاصيل الحسية، السر الذي يصعب تعلمه أو التصريح به وجود قوة وسحر في كل ما يكتب من القلب ويعبّر عن خفايا النفس، ونتيجتها فوق التصديق المحبة. ودومًا الانغماس في الحالة حصاده القرب من المتلقي.
* تنطلق ثقافتنا اليوم وفق معايير عالمية وتحديدًا مع مشاهدتنا لإنشاء هيئات متنوعة تحت مظلّة وزارة الثقافة المُنشأة حديثًا بغية هذا الانطلاق التصاعدي الهادف للارتقاء بالمؤلف والمثقف والناشر والمترجم السعودي.. كيف تقرؤون هذه المرحلة، وما الذي تتمنى تحققه ورؤيته في مشهدنا الثقافي السعودي كمؤلف ومثقف؟
- الزمن خاضع لقوانين ثابتة والتغيير الممكن يخص الخطوات وسرعة الوصول، اليوم التطور في سلاسة الحركة وسهولة العثور على الفرصة، المنافسة والتحديات لم تعد في الطريق إنما في المنتج النهائي، الظروف والبيئة تحولت إلى حالة من التحفيز والإلهام. وفي مختلف الجوانب الإبداعية يلاحظ وفرة في كمية المنجزات ونوعيتها، كذلك قولبة التخصصات ضمنت وجود مسارات واضحة لتخلق مجتمعات متشابهة تتبادل الخبرات وتحقق لأفرادها الدعم والنقد، مع التقارب بين الأجيال وتقليص المسافة بين الرواد والأسماء الشابة الجادة والطموحة. المستقبل الذي كنا نركض إليه أصبحنا جزء منه، لنكون في مرحلة جديرة بالوصف أنها فاعلة، على الرغم من حداثة وزارة الثقافة والهيئات الثقافية إلا أن الإستراتيجيات والمبادرات استثمرت في عناصر القوة المتاحة وتكفلت بوضوح الرؤية للوصول. أخيرًا ما أتمناه هو ما يجب اتخاذ خطوة باتجاهه، الحضور في المشهد لأن التجربة الحالية وضعتنا في موقع المساهمة وليس الانتظار...