خالد محمد الدوس
تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة السلوك الإنساني والذي يشمل جوانبه الاجتماعية والثقافية، وتضم العديد من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس والخدمة الاجتماعية والاقتصاد والإعلام.
تعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفساراتهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق، ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضوعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين والمنظرين بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع.. ومن العلماء والرواد في هذا المجال أبو علم الاجتماع الحديث الأمريكي (روبرت ميرتون) عالم الاجتماع الأبرز في القرن العشرين الذي أحدث ثورة في مجال البحث الاجتماعي, وصاغ مرحلة متقدمة في المدرسة البنائية الوظيفية عندما أدخل بعض التعديلات على هذه النظرية التي وضع أُسسها أصحاب الاتجاه الوظيفي من الرواد الأوائل منذ فترة طويلة .كما كان له إسهامات كبيرة في علم الجريمة التي على ضوئها ظهر علم اجتماع الجريمة كفرع حيوي له نظرياته وأبحاثه ومقوماته العلمية.
ولد ميرتون عام 1910م في فيلادلفيا الأمريكية في أسرة كانت تعاني من العجز المالي، ورغم مرارة الظروف المعيشية ونشأته كفقير إلى حد ما...!! كان متفوقا في التعليم العام ثم حصل على منحة دراسية في (جامعة تيمبل)، حيث بدأ تعليمه الجامعي في عقده الثاني ثم تقدم للعمل كمساعد باحث للعالم الاجتماعي سوروكين، وبدأ في دراسة علم الاجتماع بعمق وبدأ في نشر أوراق بحثية مع حلول عام 1934 ليتسع أفقه العلمي ومداركه البحثية، مستثمرا وجود علماء وخبراء أفذاذ في علم الاجتماع الحديث أمثال بارسونز وسوركين وغيرهم من العلماء، وقد وجد بيئة علمية محفزة ومشجعة ووجد الكثير من الثناء على فكره البحثي وحسه المهني الرفيع.
حصل ميرتون على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة هارفارد المخضرمة عام 1938م بعد أن أشرف عليه في هذه المرحلة أستاذه رائد الفكر الوظيفي العالم (تالكوت بارسونز) الذي دعمه بمصطلحات البنائية والوظيفية والتي ساعدته في تأليف مؤلفه الأشهر «البناء الاجتماعي للفعل الاجتماعي»، وكتاب علم اجتماع العلوم, وكتاب التناقض الاجتماعي، وكتاب تنميط السلوك عند العلماء.
كتب عالم الاجتماع ميرتون العديد من الأوراق البحثية على التوالي، مما جعله يتمتع بشعبية كبيرة في علم الاجتماع في سن مبكرة، خاصة بعد أن نشر أهم الأوراق في حياته المهنية أواخر الثلاثينيات الميلادية من القرن الفائت والتي كانت بعنوان (العلوم والتكنولوجيا والمجتمع في انجلترا في القرن السابع عشر)، وأصبحت الورقة البحثية التي كتبها حول هذا الموضوع علامة بارزة في تأسيس علم الاجتماع الحديث, كما انضم الى (جامعة تولين) كأستاذ ورئيس قسم الاجتماع، وفي عام 1941 التحق بجامعة كولومبيا ودرّس في الجامعة على مدى (خمسين عاما), وقدم إسهامات مهمة في مجال النظرية الوظيفية مع تمييزه بين الوظائف الظاهرة والوظائف الكامنة, وكان من أشهر طلابه في مرحلة الدكتوراه (العلماء بيتر بلاو, ولويس كوزر, وبارني جلاسر)، كما جمع بين المدخل النظري والمدخل الامبيريقي الواقعي في دراسة المشكلات الاجتماعية، وقد حقق كتابه (النظرية الاجتماعية والبناء الاجتماعي) شهرة واسعة، لما انطوى عليه من مميزات لا تتوافر في مؤلفين آخرين، كما قدم عرضا نموذجا خاصا من النظرية سماه « نظرية المدى المتوسط»، وهي نظرية تبدأ وفقا لرؤية - هذا العالم الشهير - في النظر إلى الظواهر الاجتماعية بوضوح ومن جوانب محدودة, بدلا من كيانات واسعة مجردة مثل المجتمع ككل, حيث عرف هذه النظرية: بأنها تلك التي تقع بين طرفين : الطرف الأول يتمثل في مجموعة الافتراضات العلمية البسيطة التي تقابلها عند إجراء البحوث الميدانية, والطرف الثاني يتمثل في النظريات الشاملة الموحدة التي تسعى على تفسير كل ملاحظة عن انتظام في السلوك الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي. كما أدخل العديد من المفاهيم في المجال الاجتماعي, وفي نظرية الانحراف التي طورها وصاغ مفاهيمها (سوسيولوجيا) قال: الانحراف قد يكون (بنيوي) أي إذا كانت البنى الاجتماعية مصابة بقصور تنظيمي، فقد يؤدي ذلك إلى تغيير تصورات الأفراد فيما يتعلق بالوسائل والفرص, وقد يكون (فردياً) وهنا يشير إلى الآلام التي يعاني منها الفرد عندما يبحث عن وسائل تلبية احتياجاته.
في حياته العلمية والعملية شغل عالم الاجتماع الأشهر في القرن العشرين (روبرت ميرتون) عدة مناصب مهمة في مسيرته العلمية والمهنية : منها نائب مدير مكتب البحوث الاجتماعية التطبيقية بجامعة كولومبيا (1942 - 1971) أمين مركز الدراسات المتقدمة في العلوم السلوكية بجامعة ستانفورد (1952 - 1975) رئيس الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع (1957).
وأمام تلك الإسهامات العلمية والعملية نال العديد من الجوائز العالمية ومنها : منحة مرموقة من المجلس الأمريكي للجمعيات العلمية 1962، جائزة الكومنولث المتميزة في علم الاجتماع 1970، جائزة ماكاراتور في كلية الدراسات العليا 1980، جائزة من هو في أمريكا عن الإنجازات العالمية في مجال العلوم الاجتماعية 1984, كما نال شرف أنه أول عالم اجتماع أصبح عضوا فخريا في الأكاديمية الوطنية للعلوم وممثلا أجنبيا في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم ونشر العديد من الأعمال العلمية في النظرية الاجتماعية.
وتقديرا لمساهماته الفاعلة والبارزة في إثراء علم الاجتماع الحديث أنشأت جامعة كولومبيا أستاذية العالم (ربوبرت ميرتون) في العلوم الاجتماعية عام 1990, هذا فضلا عن منحه من قبل أكثر عشرين جامعة درجات فخرية وأبرزها: جامعات: هارفارد, وبيل, وكولومبيا, وجامعة شيكاغو, وفي الخارج: جامعة ليدن, ويلز, كراكوف, وأكسفورد.. وغيرها من الجامعات.. كأول عالم اجتماعي أمريكي ينال هذه المنح الفخرية من أعرق الجامعات العالمية.
توفي أبو علم الاجتماع الحديث في أمريكا (ميرتون) في 23 فبراير 2003 وكان عمره ( 92 سنة)، بعد أن ترك إسهامات علمية ومنجزات بحثية غنية أثرت مكتبة علم الاجتماع وتراثه الأصيل كواحد من أكثر علماء الاجتماع تأثيراً في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كان شغوفاً به طوال حياته المهنية والبحثية.