محمد جبر الحربي
ما سِرُّ الحرفِ،
وسِرُّ اللونِ،
وسِرُّ الكونِ المفتوحْ..؟!
هلْ كان الحُبُّ،
الجودُ المُمْطِرُ
إذْ تُشْعِلُكَ العينُ
أمِ العقلُ،
أمِ الروحْ..؟!
السرُّ الخالقُ
يمنحُكَ الفسحةَ للإيمان،
وللفهمِ،
وللَبوْحْ.
غمرتني الألوان بلطفها وكرمها منذ الطفولة الأولى، بتناغمها، بتكاملها وتآلفها واختلافها وتضادها، بالدهشة التي تحدثها، وباللغات التي تتقنها، وبالحواس التي تجيد إيقاظها..
بالنيران التي تشعلها، وبالحرائق التي تطفئها.
ثم غمرتها بالشكر والامتنان مع تدرج العمر، تماماً مثل تدرِّجها، حين عجنتها بماء الحروف، ودم العواطف، وأطلقتها مرةً أخرى شعراً ونثراً، حُبَّاً وخيراً وجمالاً لا يبلَى، ولا تتغير ألوانه على يد عوامل التعرية.. والزمن..
أطلقتها لتروي الحكاية والسيرة، سيرة أميرٍ صغيرٍ ذاب حباً بأهلهِ ووطنه.. أوطانه، والناس، كل الناس حتى شاب..!
كما أطلقتها لتروي عطش المحبين كذلك للخير والحب والجمال.. وللحق والعدل والمساوة.
تمَّحِي الألوان، ونذوي ونذبلُ معها، وتبقى الحروف بألوانها ما بقي الزمن.
وكما كنت أقول وأكتب، فإن العيون نوافذ الروح، لكن هل هي التي تمنح الألوان والجمال، أم هي التي تكتسب ما يشاع لها، أم أنها ترسل وتستقبل في نفس الوقت..؟!
أعتقد بعيداً عن التحليل العلمي، أنَّ النفس مكسوةً بالمعارف هي المانح الدافئ، فما هو قبيحٌ في عين، جميلٌ يسلب اللبَّ في عينٍ أخرى.
وما هو نغمةٌ لأذنٍ هو نشازٌ لأذنٍ أخرى.
هل هذا دليلٌ على أن العشق هو عشق الأرواح، قبل عشق الوجوه والأشكال..؟!
الحقيقةُ أن هذا واقعٌ عشناه، وقرأناه عبر التاريخ.
وفي كل الأحوال، لا بد لنا من تربية الذائقة وتدريبها وترقيتها، ولا بد من التحضر لفهم مكامن الجمال في الجديد، ولا بد من الثقافة لتقدير الفنون التي تتطورُ بشكلٍ سريعٍ، مع تطور أدواتها وتقنياتها.
ألذلك قلت:
وَلَا ألْـوَانَ لَــوْلَا الْعـَـيْـنُ
مَنـْحَــاً لِلشَّـفَـافِــيَّـــــة
فَـلَا بَـيـْضَـاءَ لَا سَـوْدَاءَ
لَا حَـــتَّـــى رَمَـــادِيَّــــةْ
جَمَـالُـكَ يَـمْـنَـحُ الْأَلْـوَانَ
وُجْــدَانَــاً.. وَمَــاهِـــيَّـةْ
وَعَيْنُـكَ تَـمْـنَـحُ الْـعَـادِيَّ
دُنْــيَــا غَــيْــرَ عَــادِيَّـةْ
تَـخَــالُ تَــدَرُّجَ الْأَلْــوَانِ
مِنْ ذَاتِ الْجَـمَــالِــيَّــــةْ
وَأَنَّ تَــجَــدُّدَ الْأَفْــــكَــارِ
مَحْــدُودٌ بِــذَاتِــيَّــةْ
وَأَنْـتَ الْـكَــوْنُ فِـي ذَاتٍ
كَذَاتِ الْكَـوْنِ مَـطْوِيَّــةْ
وَأَنْـتَ جَـدِيـدُ مَـا يَـأْتِــي
وَأَنْـتَ رُؤَىً تُـرَاثِــيَّــةْ
وَأَنْـتَ كُـنُـوزُ مَـنْ بَـادُواْ
قَــلَائِـدُكَ الْوِرَاثِـيَّــــةْ
قربَ الغديرِ في «جبرة» في الطائف لم يكن غيري والماء والشجيرات والهدهد ملك الطيور، ورسول نبينا سليمان الذي علم ما لم يعلمه سليمان: (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) النمل (22). وكانَ أن قتلتُ الهدهدَ طفلاً ببندقيةٍ صغيرة..
فهل أغراني وأغواني جماله..؟!
أم حجمه مقارنةً بالعصافير الصغيرة الكثيرة قرب الماء..؟!
أحكمتهُ أم جهلي..؟!
يقول الشاعر العراقي عادل عبد الله في عبثية الحرب وآثارها المدمرة في قصيدته التي تحمل تفسيرها في عنوانها «مؤونةُ الرحيلِ إلى الفراغ»:
«وفراشةٌ لا حقَّ لي في قتلها
لكنها كانت هناك من الجمالْ
حيث يصعبُ أن ترى كفَّيْكَ دونَ جريمةٍ..»
أو هكذا قال..
أما أنا الحربيُّ المسالم فما كنتُ في حربٍ ولا جبهةٍ، ما عرفت إلا الحروب بالحب، وفي سبيل الحق والخير والحب والجمال والسلام..!
لقد سحرتني «جبرةُ» بمياهها وخضرتها وكائناتها الملونة، وسحرني الهدهدُ الملكُ بتاجه وألوانه المتناغمة، وانعكاسات كل ذلك على صفحة الماء، لكن من وضع البندقيةَ في يد الطفل الشاعر..؟!
لا يهم، فربما علمه ذلك ألا يؤذي كائناً من بعد، وأن يقدر الجمال والأروح والحياة.. وهو ما انعكس على شخصيتي وفكري وشعري ونثري.
ربما كانت تجربةً ليتعلم نبذ العنف والقتل كما تعلم موسى من قتل القبطي..!
أَحِنُّ إِلَى هُدْهُدٍ عَالِمٍ بِالْحَيَاةِ،
اصْطفيْتُ لَهُ الْمَوْتَ عَصْرِيَّةً
عَصْرَ (جَبْرةَ)،
وَالْعُمْرُ طِفْلٌ،
وَوَحْدي أُصَوِّبُ بَرْدَاً حَدِيدَاً
عَلَى الْخُضْرَة الْبِكْرِ وَالْمَاءِ،
وَالْهُدْهُدُ الْمُطْمَئِنُّ إِلَى حِكْمَةٍ
يَتَهَادَى عَلَى مَاءِ حِكْمَتِهِ.
وَأُصَوِّبُ،
أَسْتَغْفِرُ اللهَ
كُنْتُ صَغِيرَاً بِمَا بِي مِنَ الْجَهْلِ
خَلْفَ اخْتِبَاءِ الْمِيَاهِ،
وَكَانَ عَظِيمَاً بِمَا يَعْدِلُ الْعَالِمُونَ بِصَمْتٍ،
وَكَانَ الْمَلِكْ.