د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في زمن خلا كانت زوايا الشوارع، وعتب الأبنية، وتحت قباب السقوف، وعند مداخل الدكاكين، وبين حقول المزارع، ونحوها ملتقى الأصدقاء صبحًا وظهرًا وعشيةً، وإذ نمت المدن واتسعت طرقاتها، وتباعدت المسافات ولم تخب العلاقات فقد استبدل بهذه جلسات لطيفة في الديوانيات.
** قرأ أستاذ صديق كتابه عن والده -رحمه الله- المعنون: «الألفية لا الأبجدية 2020م» وقال -في اتصال خاص- إنه لو لم يعرف المكتوب عنه والمدينة التي عاش وتوفي بها لظن مسرح الكتاب «أثينا» لتعدد الملتقيات الخاصة التي كان المرحوم يرتادها، وتعمرها نقاشات لغوية وتأريخية وجغرافية وأدبية، وقد عجب الكاتب كما أعجب؛ فلم ترد قصدًا، كما لم تجئ مجموعةً، بل وردت منجمةً ضمن السرد الانسيابي العفوي، وبين شهادات المشاركين.
** استعاد كما استفاد من مجالس علم ورأي غاب بعضها برحيل ذويها أو عجزهم، ومنها في الرياض -مثلًا- مجالس الدكاترة: عبدالعزيز الخويطر وراشد المبارك ومنصور التركي وعبدالرحمن الشبيلي -غفر الله لهم-، ومجلس الشيخ محمد العبودي -شفاه الله- كما قلص الشيخ عبدالله العلي النعيم جلستيه إلى واحدة، وتوارت أو ضعفت جلسات أخر لم يرتدها غير عارف بها وإن كان غير عازف عنها.
** تقلصت في العاصمة، أو كذا افترض بحكم المسافات والالتزامات، ونمت في المدن الصغيرة، وحدّث ذو ثقة أن عدد المجالس المفتوحة في عنيزة تجاوز ثلاث مئة مجلس عام، ولم يدقق فلا يجزم، وتعقد من الفجر إلى الفجر، وليس فيها ولا منها الدوريات المسائية وجلسات الاستراحات والمتنزهات.
** ولعل من أبرز هذه الجلسات وأقدمها جلسة الأستاذ الشاعر صلاح بن حمد البسام حيث تجاوز عمرها ثلاثين عامًا، وتنتظم مرتين كل يوم، ضحىً ومغربًا، وفيها توزيع لطيف؛ فضحى السبت -مثلًا- مخصص لطلبة العلم والمثقفين، ومن يقدر على استضافة بضع عشرة مجموعةً كل أسبوع بأريحية نفس وسخاء يد وسعة بال إلا أمثال أبي خالد.
** وتقابلها في الرياض جلسة «ضحوية» كل يوم من السبت إلى الجمعة تبدأ في الصباح الباكر وتنتهي بعد صلاة الظهر أو قبل صلاة الجمعة، ويستضيفها الأستاذ عبدالعزيز بن حمد السليمان البسام في بيته، وجلسة أسبوعية في منزل الأستاذ عبدالرحمن الذكير، وجلستان شهريتان في منزلي الدكتورين محمد المشوح وعبدالعزيز الواصل، وفي عنيزة لا تزال جلسة «مطلة» المرتبطة بأستاذنا عبدالرحمن البطحي -رحمه الله- منتظمة مغرب كل جمعة، وجلسة الشاعر الأستاذ عبدالعزيز بن محمد القبيل ضحى كل يوم ومغربه، وعصرية أولاد الشيخ سعد العبدالعزيز السليم، وكذا جلسة الأستاذ إبراهيم العبيكي مغرب كل يوم، وثمة جلسات أسبوعية تتفاوت أوقاتها، وارتاد صاحبكم منها جلسات الأساتذة محمد وسامي ابني الشيخ عبدالرحمن البسام، وجلسة العم عبدالرحمن الدوسري والدكتور فريد الزامل، وتمنى ارتياد جلسات لم يأذن له وقته بحضورها.
** تشير هذه المجالس إلى قيمة الثقافة الفرعية Sub- culture في موضوعاتها ومواقعها مكملةً دور الثقافة الرئيسية Main- Culture المعنية بأعمال العقول ونتاجها، ولا نغفل دور الأندية الأدبية وجمعيات ومراكز الثقافة، وبها يتوازن المشهد العام وتتعدد منائره.
** الثقافة لا تتأطر.