تعد نظريَّة (الفنِّ للفن) من أشهر النَّظريات المُتصلة بأهمية الأدب ودوره في الحياة، وقد ظهرت بمفهومها المكتمل في القرن التَّاسع عشر، إلا أنَّ جُذورها تضرب في أعماق التَّاريخ الأدبي على مدى العصور وتنوع الآداب، بدءًا بقول أرسطو: «إنه على الرُّغم من الأثر الكبير للأخلاق في الحياة، والفائدة الجُلَّى من الإرشاد والتَّوجيه في بناء المُجتمعات، فإنَّه لا يجوز لهذين الأمرين أن يمدَّا يديهما إلى الشِّعر، وأن يمسَّا فنِّيّته»(1)، حيث يضع أرسطو حدًّا فاصلًا بين الإبداع الفنّي في الشِّعر من جهة والتَّوجيه والنصح الذي يستعمل في التَّعليم من جهة ثانية، وهو يرفع من شأن الشُّعراء وفنِّيتهم الإبداعيَّة ويعدّها عبقرية.
فنظرية الفن للفن في مفهومها تسعى إلى تحقيق المُتعة الفنِّيّة؛ باعتبار الأدب وسيلة جماليّة ترمي إلى التَّسلية والإمتاع بعيدًا عن المبادئ والأخلاق والمُثل والتَّوجيهات العلميَّة التي تُفقد الأدب فنِّيته وجماليته السَّامية، حيث يرى دُعاة هذا المذهب أن هدف الإنسان البحث عن السَّعادة وتحقيقها، والفنُّ هو الوسيلة المُثلى للوصول إلى السَّعادة، وبذلك يكون الفنُّ الشِّعريّ غاية في ذاته لا وسيلة إلى غايات أخرى (2).
هذا التَّوجه في نظرية (الفن للفن) يُجرِّد الفنَّ من الأدوار الفكريَّة والعلميَّة والإيديولوجيَّة، ويُحرره من المعايير الدينيَّة والأخلاقيَّة، ويُوجهه نحو بناء الجمال فحسب؛ الأمر الذي يؤدي إلى إعلاء قيمة الفنية الأدبيَّة الإبداعيَّة، والاهتمام بالتَّعبير الأدبي لفظًا شكليًّا، وموسيقيًا، وصورًا، وأسلوبًا وتراكيب، دون الالتفات إلى مضمونه النَّفعيّ والفكريّ، فالمهم هو قيمة العمل التَّعبيريَّة والشُّعوريَّة، فهو كما يتمثَّله كروتشه: «لا يمكن أن يكون فعلًا نفعيًّا... وإنَّما الفنَّان فنان لا أكثر، أي إنسان يُحبّ ويشعر ويُعبِّر، ليس الفنَّان من حيث هو فنان عالمًا ولا فيلسوفًا ولا أخلاقيًّا... ولا نستطيع أن نطلب منه إلا شيئًا واحدًا هو التَّكافؤ بين ما ينتج وما يشعر به»(3)، وهذا الاهتمام بالقيمة الفنيَّة موصل بطريقة ما إلى القطيعة والفصل بين الأدب من طرف والحياة والمجتمع من الطرف الآخر.
* * * * * * * * *
في مقابل نظرية الفن للفن ظهرت دعوات مُناقضة لمبادئها، منها (الدعوة إلى توظيف الأدب لإثراء النهضة العلمية والفكرية)، وذلك بإعمال العقل والمنطق بعيدًا عن العاطفة الأدبيَّة الإنسانيَّة، حيث يرى أصحاب هذا التَّيار المُسمى بـ(المذهب الطبيعي) أنَّ الأدب مُلتزمٌ بخدمة المجتمع، والأديب صاحب رسالة ينبغي عليه أداؤها.
ويعود الدَّافع في نشوء هذا التيار إلى الاهتمام الكبير بالتَّقدم العلميّ الذي يواكب عصر النَّهضة الأوروبيَّة، وصدام العقل حينها مع الكنيسة، وظهور تيار الوعي المحارب لتَّعاليم تلك الكنيسة والمُعلي لقيمة العقل. أما عند العرب فقد ضعف الوعي العلمي آنذاك، وخبت عزيمة المجتمع في مختلف نواحي النشاط الإنساني؛ الأمر الذي شكَّل حافزًا لرواد هذا التيار من العرب إلى الاستعانة بذات التَّيار الغربي، والتَّأثر بأفكاره، ومُحاولة تطبيقها للنهوض بفكر الأُمَّة العربيَّة وحضارتها العلميَّة.
وممّا يُؤخذ على هذه الدعوة أنها تُفقد الأدب قيمته الجماليَّة، وتُحيله إلى الجُمود بعيدًا عن العاطفة التي هي أساس في نسيجه، وتحيد بالأدب بعيدًا عن كنهه وجوهره، وهذا لا يعني أن تغذية الأدب بالمحتوى العلمي مرفوض بالمطلق، فمن الجيد أن يمتلك الأديب فكرًا بالإضافة إلى مهاراته التَّعبيريَّة وقدرته على التَّأثير؛ بيد أن مسؤولية العلم يحملها المفكرون والعلماء قبل الأدباء، وهم بها أولى، ولمنفعتها أجدر.
* * * * * * * * * * *
وإلى جانب التيار العقلي الذي يدعو إلى توظيف الأدب من أجل العلم والمعرفة؛ هناك تيار آخر، يُسلِّم إلى عاتق الأدب (مسؤولية الإصلاح الاجتماعي)، والبُعد عن الذَّاتية الفرديَّة، وعن الانغراق في آمال النفس وعواطفها الشَّخصيّة، حيث يرى أحمد أمين أن «أول واجب على الأدب العربي أن يتعرَّف على الحياة الجديدة للأمة العربية، ويقودها، ويجدّ في إصلاح عيوبها، ويرسم لها مثلها الأعلى، ويستحثها للسير إليه»(4)، وبذلك تُصبح وظيفة الأدب إصلاحية، وهذا التيار الاجتماعي الإصلاحي جاء إلى العرب متلاقحًا من الأدب الأمريكي، الذي اشتغل رواده في الكتابة عن الحياة الاجتماعية وقضاياها ومشكلاتها بعيدًا عن الخيالات الأدبيَّة والأساطير الإبداعيَّة؛ بغية النهوض بعبء الإصلاح الاجتماعي.
وقد دار سجالًا بين أحمد أمين وتوفيق الحكيم، حيث غلب على ثانيهما النَّزعة الفرديَّة في كتاباته الأدبيَّة، وهو يرى أفضلية الأدب المُغذّى بالأساطير، حفاظًا على الجماليّة الفنِّيّة، وأنَّ الغاية من الأدب هو المُتعة والتَّغذية الروحيّة لا المتاجرة به من أجل القضايا الاجتماعية. كما أن توفيق اختلف مع أمين على تعريف معنى (الرقي) في الفن، فهو ينكر على أمين رؤيته بأنّ الفن الراقي هو المُسخّر لتناول تقدم أسباب المعيشة المادّية والضرورات اليومية، وإنما الفن الراقي -من وجهة نظر توفيق- يحصل بالمثاليَّة الإنسانيَّة التي تسعى إلى تغذية الروح لا الجسد.
ومن المنطلق السَّابق، توجّه رواد تيار توظيف الأدب للإصلاح الاجتماعي إلى نقد (الفن القصصي) على وجه الخُصوص، لما للقاصّ من دور كبير في تحقيق الغايات الاجتماعيَّة والتَّأثير في وعي المجتمع بواسطة الفنِّ القصصيّ، واستشهدوا بالدور الذي أداه بعض الكُتّاب بأدبهم السردي كجان جاك روسو وفولتير إبّان الثَّورة الفرنسيَّة، ورأوا في ذلك قصورًا وتقصيرًا من القُصّاص.
وليس الفن القصصي وحده هو المقصِّر لدى رواد الإصلاح الاجتماعي، بل حتى (الموسيقيين)، حيث يرون أن بعض الألحان الموسيقيَّة أشبه بالنواح والبكاء المُصوّر لنفسية الأمة الانهزاميَّة، وينبغي أن تُؤلّف الألحان بما يثير الشجاعة والحماسة دون افتعال أو تكلف.
* * * * * * * * * * *
إجمالًا لما سبق طرحه من التَّنازع على وظيفة الأدب ودوره في الحياة، ما بين الفنّ الجماليّ، أو الفكر العقلي، أو إصلاح الحياة الاجتماعية، تتنازع سلطات روحيَّة وفكريَّة واجتماعيَّة على رسم قالب الأدب، فالأول يرى أن الفنَّ عالمٌ ساميٌّ روحانيٌّ يُؤدى لذاته وجماليته، ويتمثل عواطف الفرد الخاصّة وخيالاته، والثَّاني يميل إلى الواقعيَّة والمنطقيَّة ويرى أن على الأديب مسؤولية النُّهوض بالفكر العلميِّ، والثَّالث يتماس مع الحياة اليوميَّة ويُسلّم إلى الأديب مسؤولية الإصلاح الاجتماعي.
ولا شكَّ أنَّه من الواجب على الأديب أن ينأى بقلمه وفكره عن السطحيَّة في نتاجه، وأن يكون على قدرٍ عال من الثَّقافة والفكر، فلا يُقبل الأدب الأجوف، ويزهد فيه الجمهور، كما أنَّ الأديب ابن مجتمعه وبأحواله يتأثر؛ إلا أن بوق الأدب يخاطب الوجدان لا العقل، وإن كان يُثير الفكر، غير أن العاطفة من أركانه الأساسيَّة التي لا يقوم له من غيرها قائمة، أمَّا العلم فله منصّات مُتعددة تُؤدي دوره، مع التَّأكيد على أنَّ الأديب المُثقف ذو نتاجٍ مُتفرد عمَّن ينقصه في العلم، إلا أنَّ قولبة الأدب لخدمة المُحتوى العلمي بشكلٍ مُبالغٍ يقضي على الأدب ويفقده جوهره.
كما أنَّه لا ينبغي الفرض على نتاج الأدب بما يخدم الأغراض الاجتماعيَّة، فإن جنحت رؤية أديب ما وفكره إلى عالم خيالي أسطوري بعيدًا عن أحوال المجتمع فلعلَّ الأدب حينها مساحة علاجيّة للتَّرويح النَّفسي بعيدًا عن ثقل أوضاع الحياة، ولاسيما أنَّ هناك أدباء آخرين سيؤدون الدور الاجتماعي مُتماسين مع أوضاعهم ومُتأثرين بها، إلا أنَّ الشَّكل الأدبي الناتج منهم ينبغي ألا يخلو من الفنيَّة الجماليَّة.
... ... ... ... ...
(1) أرسطو، فن الشعر، ترجمة وتعليق: إبراهيم حمادة، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، د.ت) كتاب إلكتروني.
(2) يُنظر إلى: عبدالرحمن رأفت باشا، نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، ط4، (القاهرة: دار الأدب الإسلامي، 1998) 78.
(3) وليد قصاب، في الأدب الإسلامي، (دمشق: دار الفكر، 2016) 60- 61.
(4) بدوي طبانة، التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، ط3 (الرياض: دار المريخ، 1986) 138.
** **
- مشاعل عمر بن جحلان