يقصد بالمدلول السياقي للصورة، تلك المعاني التي تدلّ عليها السياقات الصورية، وذلك من حيث سكونيته ومباشرته، أو من حيث حركته، وتعدّد معانيه ودلالاته وأبعاده (1)، ولن يتمّ ذلك إلاَّ بالاعتماد على «تكثيف اللغة، من خلال التركيز على توازنها الصوتي والإيقاعي، وعلى استخدام الصور التي تتكون في داخل سياق النص، مما يصرف نظر المتلقي بعيدًا عن الدلالات المرجعية للكلمات، ويحوله إلى ما في لغة النص من خصائص فنية (شكلية)» (2).
والملاحظ أنّ المدلول السياقي للبنية الصورية في قصيدة «أنشودة المطر»؛ قد تمثّل في المدلول الحركي الحر، والمفارقة اللفظية، والإيحائية، والتدويرية، وهو ما أدّى، بالتضافر مع بقية السياقات إلى تجاوز المعنى الأحادي إلى المعاني والأبعاد المختلفة والدلالات المتعددة؛ لأنّ جماليات الصورة لا تقف عند حدود المشابهة والمماثلة فحسب، رغم قيامها بهذه الحدود، بل بخلق حدود تمتدّ إلى أغوار النفس وخيالها الخبيء، الذي يقيم علائق ما بين أشياء لها شكولها للامتناهية (3).
والملاحظ أنّ مفارقة الموقف -مثلاً- في «أنشودة المطر» أصبح أداةً حيوية وجوهرية في تشكيل أبعاد الصورة الشعرية، وهذا ما أدّى إلى تعدّد معاني النص، وانفتاحه على دلالات مختلفة، ومن ذلك على سبيل التمثيل:
أتعلمِينَ أيَّ حزْنٍ يبعثُ المطر؟
وكيفَ تنشجُ المزاريبُ إِذَا انهمر؟
وكيفَ يشعرُ الوحيدُ فيهِ بالضَّياع؟
بلا انتهاء - كالدَّمِ المُراقِ، كالجياع،
كالحبّ، كالأطفالِ، كالموتى - هُو المطر!
ومقلتاك بي تطيفَانِ معَ المطر
وعبرَ أمواجِ الخليجِ تمسحُ البروقْ
سواحلَ العراقِ بالنُّجومِ والمحار،
كأنَّها تهمُّ بالشروق
فيسحبُ الليلُ عليها من دمٍ دثارْ.
أَصيحُ بالخليجِ: «يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤِ، والمحارِ، والرَّدى!»
?فيرجعُ الصَّدى
كأنّه النشيجْ:
«يا خليج
يا واهبَ المحارِ والرَّدى..»
فإذا كان السياب قد استفتح المقطع الشعري بمساءلة المحبوبة عن الحزن الذي يبعث المطر، والصوت المنبعث من انهمار المزاريب، وعن الشعور المملوء بالوحدة والضياع؛ فإنّ الصور الشعرية الموظّفة قد اقترنت بالشيء ونقيضه في آنٍ واحدٍ، وذلك للقيام بحالة من التوازن ما بين نقيضين، مع أنّ الصور هنا ليست صورًا ضاجّة بالحركة والصوت الصاخب، وبهذا استحالت «الصيحة»، رغم صخب الفعل المضارع= «أصيح»، صيحة ممتلئة بالألم، ومثخنة بالحزن والانكسار الداخلي= «النّشيج»، الأمر الذي أدّى إلى حالة من اليأس من دلالة العطاء في كلمة «اللؤلؤ»، ليبقي «المحار والردى»، وفي حال المقارنة بـ»يا واهب اللؤلؤ والمحار والرّدى»، وبلسان الصّدى «يا واهب المحار والرَّدى»؛ يلاحظ أنّ كلمة «اللؤلؤ» قد حُذفت من جواب الصّدى، مع ما يصحبها من خيبة أمل وبؤس يمثّلها «المحار»، أو موت يمثّله «الرَّدى»(4).
في مقابل ذلك يبرز مشهد رمزي عناصره الأسى الشفيف، والموت، والميلاد، والظلام، والعينان حين يأفل عنهما القمر، وجميعها تكاد تتبلور فيما يمكن تسميته بالضّدية التقابلية، وقد أدّت دورها الإيحائي المحمول على المفارقة، بالتزامن مع تعبير الشاعر عن عالمه.
فحضور «المطر» في ضوء المشهد الأول يرمز إلى انتظار دورة الحياة، وفي المشهد الآخر برق يرعش الخريف، فتستحيل الرعشة إلى نشوة وحشية، تعمّ عرائش الكروم؛ إعلانًا عن فرحة ميلاد جديد، وبعث منتظر يصحبهما حرية منتظرة ومستقبل مقبل، إنّها الفرحة التي تنطلق ببطء مع توقيع نقرات العصافير مدغدغة على أفْرُع الشجر.
إنّ البعد الإيحائي للصورة الشعرية يؤدّي إلى تعدّد دلالاتها، واستجلاء معانيها العميقة التي تتكشف من خلالها؛ عن «طريق بث أفكار تتمكن من النفس بواسطة الصور الشعرية، وموسيقا الشعر، على أن توحي هذه الصور بالأفكار والمشاعر، ولا تدل صراحة. فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور، لا في التصريح بالأفكار مجردة، ولا المبالغة في وصفها. ومدار الإيحاء على التعبير عن التجربة ودقائقها، لا على تسمية ما تولده في النفس من عواطف، بل إن هذه التسمية تضعف من قيمة الشعر الفنية؛ لأنها تجعل المشاعر والأحاسيس أقرب إلى التعميم والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص» (7).
وبهذا؛ فلا تكاد تخلو قصيدة «أنشودة المطر» من الاعتماد على المكونات الإيحائية والرمزية، وهذا بدوره ما أدّى إلى أنْ تتجاوز كل صورة من صور القصيدة معناها المعجمي الأحادي لها، إلى مدلولاتٍ موحية؛ ولذلك فإنّ الصور الإيحائية التي تحملها القصيدة، تكاد تتمخّض من خلال الأبعاد الرمزية والدلالات المتعددة؛ فالمعاني التي يطرحها النص تجعلها أقرب إلى حركية المعنى منه إلى سكونيته؛ لأنّ القصيدة في جملتها تعبّر عن التناقضات الكائنة في الواقع المعاش، بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون.
إنّ حركية المعنى تقوم على التفاعل الماثل ما بين العوالم الداخلية والخارجية، ففي القصيدة يمكن رصد حركة الذات من خلال ما يعتورها في الواقع الخارجي، خاصة عندما تفقد محور التواصل مع الذوات الأخرى، فتنسحب رويدًا رويدًا إلى عوالمها الداخلية، على اعتبار أنّ علاقة الخارج بالداخل في القصيدة علاقة تبادلية، وهذا التفاعل يكاد يلاحظ في كثير من مقاطع القصيدة، وذلك من خلال تجاور صور التفاعل الخارجي المليء بالمتناقضات، مع صور التفاعل الداخلي المصحوب بالمناجاة النفسية والمونولوج الداخلي، ومن ذلك على سبيل التمثيل:
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القُرى تئنُّ، والمهاجرين
يصارعُون بالمجاذيفِ وبالقلوع
فالأنين -مثلاً- عبارة عن مجموعة من الأصوات المتقطّعة التي لا تحمل دلالات معينة في ذاتها، بقدر ما تحمل أبعادًا من الألم والانكسار بانصهارها في داخل الذات الشاعرة، فيخلع عليها الشاعر مشاعره وأحاسيسه، فينتزع منها صورةً من واقعه (9)، وهذا التفاعل لا يكاد ينفصل عن الواقع المعاش بوصفه الأداة الرّاصدة للصورة الخارجية، كما هو ملاحظ في قول الشاعر:
وفي العراقِ جوعْ
وينثرُ الغلالَ فيه موسمُ الحصادْ
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشّوانَ والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ... حولها بشرْ
إنّ عملية التجاور ما بين مكونات الصور الخارجية، وما يقابلها من المكونات للصور الداخلية تكاد تكون ملتحمةً أيّما التحام بالذات الشاعرة، وهذا ما أعطى ذلك التجاور بُعدًا جديدًا مكسوًّا بالمعاني والدلالات؛ سعيًا نحو تشكّل حركية النص، التي هي في الوقت نفسه حركية المدلول الصوري (10).
واللافت أنّ تشكيل المدلول الحركي للصورة، اعتمد على توظيف الصورة، -والصورة في ذاتها- على طول المسار النصي حتى أصبحت بفضل ذلك التوظيف حاملةً للقيم الدلالية والجمالية معًا، وليست حليةً شكليةً يقف أثرها رهنًا بمعناها الأحادي، وهذه القيمة تكمن في علاقة اللغة بالقيمة الإيحائية والدلالية من جانب، والصدق الشعوري الذي تؤديه اللغة من خلال المزج ما بين الرؤية الموضوعية والفنية من جانب آخر؛ وهو ما يُحْدث نوعًا من اللذة والمتعة في الآن ذاته.
والملاحظ أنّ المدلول الحركي للصورة في القصيدة، يكاد يستمدّ فاعليته وقيمته من خلال قدرة الشاعر على تفجير طاقات المعنى، وذلك وفقًا لثلاثة مستويات:
1- اللغة الجمالية والفنية والشعورية التي يزخر بها النص.
2- آليّة التضافر ما بين الرؤية والأداة.
3- السياق اللغوي للصورة الواحدة، وصولًا للنسق العام للصورة الكلية للنص.
فسياق الصورة، بالتضافر مع بعض الكلمات الموحية بالحركة والدينامية يُقدّم بعدًا دلاليًّا موحيًا منذ اللحظة الأولى من سريانها في عروق المقطع الشعري:
عيناك حينَ تبسمَانِ تورقُ الكرومْ
وترقصُ الأضواءُ... كالأقمارِ في نهَرْ
يرجُّه المجدافُ وهْنًا ساعةُ السَّحَر
كأنَّما تنبضُ في غوريْهما، النُّجومْ...
فتوظيف عبارات مثل «تورق الكروم»، و»ترقص الأضواء»، و»تنبض النجوم»، تعدّ بمثابة النتيجة لما قبلها؛ لذلك لا تُلغي الصخب الذي تحمله الصورة إلغاءً كليًّا؛ بل تكسبها طابعًا انسيابيًّا؛ فضلاً عن شفافيتها الموحية ببدء الحياة، بعد أن أصبحت الطبيعة -والطبيعة وحدها- هي الأكثر حضورًا وتجانسًا.
ولعلّ القول بأنّ النص قد استطاع الجمع ما بين الصورة الكلية والجزئية، لا يلغي من وحدة الصور، أو الصورة الواحدة، خاصة عندما يعمد الشاعر إلى تقديم صورة كلية، فيعقبها بصور جزئية، كما هو ملاحظ في قوله: «عيناك حين تبسمَان»، ثمّ يعقبها بصورة جزئية: «ترقصُ الأضواءُ كالأقمارِ في نهر»، و»كأنَّما تنبضُ في غوريهما النُّجوم». وهكذا تتداعي الصور الشعرية واحدة بعد أخرى، لتشكّل حشدًا هائلاً من الصور المبنية على الحركة؛ حتى غدت بمثابة إشعاعات تومض بصفة دورية لتشكيل الصورة الكلية للنص، وفقًا لما تحمله الصورة الجزئية من أبعاد ودلالات.
صحيح أنّ السياق الأحادي للصورة لا يعينُ كثيرًا على تفسير مثل هذه الصور؛ لكن السياق الحركي المتعدد بمعانيه ودلالاته، هو الذي يقدّم تفسيرًا لفضّ مغاليق هذه السياقات الصورية، ويعين على كشف أبعاد الصورة، وهو ما يكسب هذه الحركية أبعادًا لتفجير الطاقات الجمالية والدلالية للنص. وهذا المدلول الحركي للصور الشعرية يتشكّل -أيضًا- من خلال الصورة التدويرية، وهو ما يؤدي إلى تضافر سياق الصورة، وتضافر السياق يؤدي إلى تضافر المعاني، وكلما كانت المعاني متضافرة في النص أكسبته أبعادًا متعددة، وهذا التعدد يضفي على النص بعدًا ديناميًّا وحركيًّا (11).
إنّ أغلب الصور تكاد تعتمد على عملية التدوير، وهذا بدوره ما أدى إلى اعتبار النص صورةً كلية متّحدة البناء، متجانسة الإيقاع، بتضافر سطورها الشعرية، وصورها الأُحادية؛ فالبعث، والحياة، والخصب، والنماء، نتيجة حتميّة لما في داخل الذات الشاعرة من الحزن، وما يؤرّقها من آلام، وما يستجيش بها من الفرح:
في كلِّ قطرةٍ من المطر
حمراءَ أو صفراءَ من أجنَّةِ الزَّهَرْ.
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حَلْمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالمِ الغدِ الفتيِّ، واهبِ الحياة!
مطر ...
مطر ...
مطر ...
... ... ... ... ...
(1) ينظر: مراد عبدالرحمن مبروك، النظرية النقدية من الصوت إلى النص: نحو نسق منهجي لقراءة النص الشعري، ط4 (جدة: النادي الأدبي الثقافي، 2012م)، 104.
(2) عبدالله محمد الغذامي، الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية، نظرية وتطبيق، ط6، (بيروت: المركز الثقافي العربي/ الدار البيضاء، 2006م)، 25-26.
(3) ينظر: رجاء عيد، لغة الشعر، قراءة في الشعر العربي الحديث، (القاهرة، مطبعة أطلس، 1985)، 92.
(4) يعلّق عبدالله الغذامي على هذا بالمعنى نفسه تقريبًا، بالقول: «إذ لو لم ينتبه القارئ لسقوط كلمة «اللؤلؤ»، ولا لوظيفة هذه الحركة، فإنه -عندئذٍ- لن يفهم السبب في التكرار والحذف، ويظنّ ذلك لعبًا من الشاعر، وليس فنًّا له مدلوله ومغزاه». ينظر: تشريح النص: مقارنات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة، (بيروت: دار الطليعة، 1987م)، 106.
(5) محمد غنيمي هلال: دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده، (القاهرة: دار النهضة، القاهرة، د. ت)، 60.
(6) ينظر: فيصل سالم العيسى، النزعة الإنسانية في شعر الرابطة القلمية، (عمّان: دار اليازوردي العلمية، 2006م)، 186.
(7) ينظر: مبروك، النظرية النقدية من الصوت إلى النص، مرجع سابق، 294
(8) ينظر: المرجع السابق، 296.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني