منذ مطلع التاريخ عبَّر الشعراء عن بؤسهم وشقائهم وما يعانونه من شظف عيش، وفقر ويتم ومرض. وامتد مدلول (البؤس) إلى ما هو أبعد من المعيشة الضنك؛ إلى استلاب الحرية ومصادرة الآراء وبخاصة بعد هيمنة المستعمر على البلاد وسكانها في القرن العشرين، وقمعهم كلما فزوا للدفاع عن أنفسهم وتحرير أرضهم. وزاد الطين بلة ما يعيش فيه الشباب من لهو غير عابئين بتحصيلٍ علمي وتنمية فكرية توصل إلى طريق الخلاص.
ولذلك اختلفت طرق التعبير عن البؤس في الشعر العربي بحسب السبب المؤدي إليه، فمن الشعراء من عمد إلى نقد المجتمع والسخرية منه لاستسلام أبنائه للمستعمر وتخليهم عن الجهاد، أو لانصرافهم عن العلم والبحث بوصفهما طريقي النهوض بالأمة. ومنهم من لجأ إلى الاحتجاج والثورة على الأوضاع القائمة والمسؤولين عنها سواء أكانوا حكامهم العرب، أم المعينين من قبل المستعمرين. ومنهم من استبد به اليأس والحسرة فلم يجد أمامه سوى البكاء والأنين. ومنهم من اكتفى بالدعاء والرجاء بانكشاف الغمة، مع نصح المجتمع وإرشاده لما يجب اتخاذه.
وفي هذا المقال أعرض لثلاثة من شعراء القرن العشرين شهروا ببؤسهم - وإن اختلفت أسبابه - وعُرفوا باختفائهم المبكر عن مسرح الحياة بعد أن أضاؤوا سماء الشعر بإبداعهم الذي سخروه لإصلاح مجتمعهم البائس؛ ليس تجاهلاً لأنفسهم، وإنما لشعورهم أن ما بهم ما هو إلا نتيجة لبؤس مجتمعاتهم، وأنه لا يمكن إعادة البهجة لحياتهم من غير أن يروا السعادة تطفح في وجوه الجميع.
هؤلاء هم: السعودي حمد الحجي (1939-1988) والتونسي أبو القاسم الشابي (1909-1934) والكويتي فهد العسكر (1913-1951) مع ملاحظة أن حياة الحجي الشعرية انتهت قبل وفاته بربع قرن.
كثيرًا ما يؤدي البؤس إلى التشاؤم؛ لا سيما حين يطول الشقاء، ويتأخر موعد الخروج من الأزمة. ولعل هذا ما يفسر النظرة السوداوية للحياة عند الحجي:
إن نظرتُ الجمال غضا طريا
يتجلى في المنظر الخلابِ
لاح لي أسودُ المصير كمسو
د الليالي مكشِّر الأنياب
فرأيت الجمال يُطوى بأكفا
نٍ ويبلى ممزَّق الأسلاب
وهو ما يجعل الشابي لا يرى في الطبيعة إلا ما يوحي بالكآبة:
ما سكوتُ المساء إلا أنينٌ
ونشيد الصباح غيرُ نحيبِ
ليس في الدهر طائرٌ يتغنى
في ضفاف الحياة غيرَ كئيب
ويجعل الدنيا تضيق بفهد العسكر حتى تحول داره سجنا:
ضاقت بي الدنيا دعيني
أندب الماضي دعيني
وأنا السجين بعقر داري
فاسمعي شكوى السجين
بهزال جسمي باصفرا
ري بالتجعد بالغضون
وإذا انتقلنا إلى التعرف على أسباب بؤسهم فنجد الحجي يرى إعماله فكره هو السبب:
وأصبحت في هذي الحياة مفكرا
فجانبت فيها لذتي وهنائي
ومن يُطل التفكير يوما بما أرى
من الناس لم يرتح ونال جزائي
وأنه ولد أديبًا في وسط لا يشكل الأدب أدنى اهتماماته:
إذا ما شئتَ أن تشقى بأرضٍ
كأرضي فلتكنْ فيها أديبا
ستُرمى بالدواهي من بنيها
وتقضي العمر منبوذا غريبا
أما الشابي فيعزو ذلك إلى حساسيته المفرطة:
والشقي الشقي من كان مثلي
في حساسيتي ورقة نفسي
وكذلك يرى العسكر سبب شقائه حسه الشاعري:
إن تسلني فانا ابن الر
يبِ مذ كنتُ صبيّا
آه ما أشقى الذي يو
هب حسًّا شاعريا
ويتفق الشعراء الثلاثة في سخطهم على الإنسان، فالحجي لا يرى الناس إلا:
بينَ نذْلٍ، وخائنٍ، وعدوٍّ،
وحسودٍ، وصاحبٍ ذي كذابِ
والشابي لا يراهم إلا خبثاء غادرين:
آهٍ من الناس الذين بلوتهم
فقلوتُهم في وحشتي وحبوري
ما منهمُ إلا خبيثٌ غادرٌ
متربصٌ بالناس شرَّ مصيرِ
والعسكر يصب جام غضبه على فئة لم يفهموه:
ئوهناك منهم معشرٌ
أفٍّ لهم كم ضايقوني
هذا رماني بالشذو
ذِ، وذا رماني بالجنونِ
وهناك منهم من رما
ني بالخلاعة والمجونِ
وتطاول المتعصبو
ن وما كفرتُ وكفَّروني
وإذا بحثنا عن وسائلهم التي اتخذوها لإصلاح المجتمع، فسنجد الحجي يتخذ منهج اللطف، لأن هدفه إصلاح الشعب، لا إبادته:
كم تمنيتُ أنني بسمةٌ في
خاطر البائس القنوط الكابي
أو منامٌ يمحو سهاد الأيامى
واليتامى والمبتلى باكتئاب
أو ضياءٌ ينير للشعب سبْل المجد
يدعو إلى اقتحام الصعاب
إلى أن يقول:
كي نرى الشعب بين ساع دؤوب
أو مُعنَّى بالفكر والآداب
أما الشابي فإنه يتمنى أن يكون حطابًا، يهوي بالفؤوس على الرؤوس، أو سيولا، أو أعاصير جارفة:
أيها الشعب ليتني كنت حطابا
فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنت كالسيول إذا سا
لت تهد القبور رمسا برمس
ليت لي قوة الأعاصير يا شعبي
فألقي إليك ثورة نفسي
وبعد ذلك كله يذهب إلى الغاب، تاركًا الشعب وحاله:
إنني ذاهب إلى الغاب يا شعبي
لأقضي الحياة وحدي بيأسِ
وأما العسكر فاستبد به اليأس، حتى رأى الموت ألطف من عيشه في وطنه:
وطني وما أقسى الحيا
ة به على الحرِّ الأمينْ
وألذُّ بين ربوعه
من عيشتي كأس المنون
عانى الشعراء الثلاثة من ظروف أسرية قاسية، لكن معاناتهم من مجتمعاتهم كانت أظهر أثرًا، وهذا يعني أن الشاعر المكتئب المنعزل لم يتخلَّ عن مجتمعه، ولم يوقف البحث عن مخرج له. وهو إن أبدى سخطه عليه فلا يعدو كونه تعبيرًا عمَّا يحسه من ألم وحسرة، فشعراؤنا الثلاثة كلهم يشغلهم الاهتمام بالوطن والمجتمع والأمة، فالحجي يبتهج بافتتاح جامعة الملك سعود، وافتتاح مطابع الرياض، ويتألم لفلسطين، ويغني للجزائر في يوم استقلالها، والشابي يعبِّر عن حسرته على شباب بلده وانصرافهم عن مقاومة المستعمر:
ألا انهض وسر في دروب الحياة
فمن نام لم تنتظره الحياة
وما لبث أن عاد لنا بقصيدته التي سارت في الآفاق:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
أما العسكر فيتحسر على تخلف بلاده مقارنة بالبلدان المتقدمة، ويستحث همم الشباب للحاق بركبها:
يا نشءُ هل من نَهضةٍ نُحيي بها
المجدَ الأثيلَ كنهضةِ الجابان؟
يا نشءُ هل من وَثبةٍ نشفي بها؟
هذا الغليلَ كوثبةِ الطليان؟
يا نشءُ هل من صَرخةٍ تَدَعُ العِدا؟
صرعى الذُّهولِ كَصَرخةِ الألمان
ويتغنى بالعروبة، ويتحسر على ضياع فلسطين، ثم يصرخ:
لغة النار والحديد هي الفصحى
وحظ الضعيف منها المنيّة
ومن الغبنِ أن نعيش عبيدًا
أين ذاك الإباء؟ أين الحمية؟
وإذا سخط الشابي على الحياة وعلى الأقدار التي أوصلته إلى ما هو فيه، كما في قوله:
سأمٌ هذه الحياة معادٌ
وصباحٌ يكرُّ في إثر ليل
ليتني لم أفد إلى هذه الدنيا
ولم تسبح الكواكب حولي
وإذا ما هرب العسكر إلى الخمرة ليودعها أحزانه وآلامه، كما في قوله:
صهرتُ في قدح الصهباء أحزاني
وصغتُ من ذوبها شعري وألحاني
وبتُّ في غلس الظلماء أرسلها
من غور روحي ومن أعماق وجداني
فإن الحجي يؤوب إلى ربه تائبا مستغفرا داعيا:
ها أنا قد مللت تجوال عقلي
في سحيق الفضا ولُجِّ العباب
آنَ يا رب أن أداوي جراحي
من صنوف الآلام والأوصاب
فاهدني للصواب إني منيب
ذو تسام إلى الهدى والصواب
** **
- سعد عبد الله الغريبي