ينتمي الأستاذ الدكتور محمد بن سليمان القسومي إلى الجيل المواكب للتحديث من أساتذة الجامعات السعودية المرموقين الذين تجاوزت سمعتهم الثقافية وعطاؤهم الأكاديمي قاعات الدراسة والمحاضرات - على أهميتها ودورها الأساسي في بناء الأجيال الجامعية - إلى المشاركة في تكوين المثقف العام، والمشاركة في تعميق شخصية المثقف الجامعي الخاص عبر المنابر الشفاهية والكتابية خارج أسوار الجامعات، مثل: المنتديات الأدبية والمؤتمرات والصحافة الأدبية، التي ضرب في كل منها بسهم وافر، إلى جانب دوره الجامعي الرصين.
لقد واصل مسيرته التعليمية بنجاح وتألق حتى حصل على درجة الماجستير، ثم أعقبها بحصوله على درجة الدكتوراه، فانخرط في العملية التعليمية في الجامعة من زواياها المختلفة تنظيماً وإدارةً وتدريساً وإشرافاً وتنسيقاً لدورات علمية وحضوراً لدورات تكميلية متصلاً؛ يرفع مستوى الأداء الجامعي في كثير من جامعات العالم شرقاً وغرباً حتى وصل إلى رئاسة قسم الأدب في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام.
وخلال هذه الرحلة العلمية الثرية، شارك الدكتور محمد القسومي في عشرات اللجان العلمية داخل جامعة الإمام محمد بن سعود أو بالتنسيق بينها وبين الجامعات الأخرى في المملكة أو من خلال التعاون الثقافي والتعليمي مع الوزارات والمؤسسات المعنية بالتعليم والثقافة على مستوى الدولة، كما أدى دوراً مهمّاً عبر وسائل الإعلام الثقافية، سواء منها الوسائل المسموعة، مثل: الإذاعة، أو المرئية عبر الشاشات، أو المقروءة من خلال الصحافة الأدبية التي قدم من خلالها نموذجاً جامعيّاً مرموقاً، وخاصة من خلال رئاسته لتحرير مجلة (قوافل) الثقافية، وقيادته لملفاتها الثقافية المتميزة التي سعى من خلالها إلى استكتاب عشرات الكتاب العرب من داخل المملكة وخارجها. وكانت له لمسته المميزة في الافتتاحية الموجزة التي يصدّر بها كل عدد. وقد اختار لها عنواناً ثابتاً مميزاً، هو(ألف الكلام). وهو بمفرداته المنتقاة الموحية، يجمع بين البداية التي يتميز بها حرف الألف في الأبجدية العربية، و(الألفة) التي يسعى من خلالها رئيس التحرير إلى استقبال قرائه في رحاب عدده وموضوعاته المنتقاة.
والذي يراجع مقدمات (ألف الكلام) للدكتور القسومي، يجد فيها نظرات عميقة، تقوم بدور (فتح الشهية) للإقبال على الموضوع المتناول في ملف العدد،
فضلاً عن الإشارة إلى الأعمدة الأساسية للصرح الذي يتهيأ القارئ للدخول إليه.
ففي مدخل العدد الذي يثير قضية الترجمة، يشير رئيس التحرير في (ألف الكلام) إلى أزمة الخيانة الجميلة، وأنها قد تكون أحياناً ضرورية في ترجمة الأعمال الأدبية، ويصعد بأزمة ترجمة المصطلحات إلى الرواد الأوائل من أمثال أحمد فارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي، ويفتح الأبواب أمام التساؤلات التي ما زالت تثار حول مفهوم (الدقة) في ترجمة المصطلح الأدبي.
وفي (ألف الكلام) للحديث عن الأدب والسينما، يلفت النظر إلى عنصر (الخيال)، وإلى الفروق الدقيقة التي يجب أن نلحظها بين (الواقع والواقعية)، وإلى أهمية تكامل وسائل الإمتاع الفني المرئية والمسموعة والثابتة والمتحركة والصامتة والناطقة، ووضع العلاقات البينية الدقيقة المتكاملة في هذا الإطار.
ويلتفت القسومي في ملف (الأدب والموسيقى) إلى أن الأديب هو موسيقي يعزف بالكلمات، وأن العازف يكتب الشعر بالنغمات، ويصعد بإشاراته إلى تجارب هوميروس والأعشى والأصفهاني والمتنبي وغيرهم ممن تمازجت لديهم أحاسيس الموسيقى والأدب.
وعلى نفس المنهج، يعالج علاقة الرسم والشعر في ملف من (قوافل)، حيث يشير إلى أن الشعر رسم ناطق، والرسم شعر صامت.
ويلتزم الدكتور القسومي نفس المنهج المحدد الدقيق في دراساته وأبحاثه الأكاديمية التي اهتم من خلالها بواقع الأدب العربي عامة والسعودي خاصة على مستوى أنواعه الأدبية الرئيسة، مثل الشعر والرواية. وقد تتبع من خلال الشعر صورة الوعي العربي في الشعر السعودي، ومن خلال الرواية صورة الرجل في الرواية النسائية السعودية، من خلال التقاط ملمح فني دقيق وعبر معالجة نقدية هادئة.
لكنه لا يتوقف عند الأدب السعودي، ويمتد إلى آفاق الأدب العربي الواسعة، من خلال بحثه الجميل حول الشخصية الرئيسية في رواية (زقاق المدق) لنجيب محفوظ.
وهو يلتقط هذه الرواية، وهي درة المرحلة الواقعية عند محفوظ وبداية انطلاق شهرته الواسعة في أربعينيات القرن العشرين، فيحدد المفهوم الدقيق للشخصية الرئيسية وعلاقتها بالمدى الزمني والتكرار، كما يعالج المزج الفني بين الشخصية والمكان (حميدة والزقاق) ودور (الصفة) في بناء العمل الروائي، ويتابع بناء الرؤية متابعة ناقد بصير.
إن ألوان النشاط العلمي والثقافي والأكاديمي تتكامل في شخصية الدكتور (القسومي) فتشكل منه نموذجاً مشرّفاً للحياة الثقافية والجامعية في المملكة العربية السعودية.
** **
أ.د أحمد درويش - جامعة القاهرة - مصر