صحيحٌ أنّها كلمات عابرة ... لكنّها ترصدُ حركة المارّين بينها مستعيرةً من البحر زُرقتَه ومن الذّاكرة رمْلَها ... صدقْتَ يا درويش!
ويختلف المارُّون ... منهم من يكون نسْيًا منسيًّا، ومنهم مَن يظلُّ اسمُه محفورا في جبهةِ الذاكرة، تزدان به جدران التاريخ...
أذْكر جيّدا عندما ألقيْتُ عصا التّرحّال في الرياض العامرة منذ إحدى عشرة سنة، ذات صباح بهيّ، كان فصلُ الخريف فيه يَحْزِمُ حقائبَه ... وكنتُ أبحثُ عمّن يدلُّني على قاعة المحاضرة التي سألقيها على طالبات الماجستير في قسم الأدب ... بدا الرّجلُ حَفِيًّا بي دون سابق معرفة ... على درجة مذهلة من التواضع والبشاشة التي تزرع في قلْب مَنْ تغرَّب عن أهله الأنسَ والطمأنينةَ والأمل! كان يعالجُ بأناة وابتسامة المفتاح في القُفْل وقد استعصى، إلى أن استسلم وانفتحَ بابُ القاعة ... افترقْنا ودخلْتُ لألقي محاضرتي ... وبقيَ في النفس شيء من هذا الرّجل الذي مرَّ من هنا لكنّه عبرَ القلبَ فانعطفتْ إليه النفس، إنّها صورة الإنسان.
وتعدّدت لقاءاتنا وأزهرتْ المودّةُ بيننا ... وتبادلْنا شجون المعرفة ورهاناتِها في عصر النّظريات الحديثة والمناهج وعلوم زماننا ... وجدتُ في الرّجل- الذي كان يرأس قسم الأدب- عطشا للتجديد وكسْر قيود التقليد التي كبّلتْ وتكبّل العديد من جامعاتنا العربية ... كان شغوفًا بالجودة والتجويد، حريصًا على فتْح آفاق بِكْرٍ في البحث الأكاديميّ، فشاع بفضل هذه الروح المتوثّبة فيه للتغيير نَفَسُ التجديد في قسم الأدب طيلة فترة رئاسته، إنّها صورة الأكاديميّ الجادّ.
وكان الرَّجلُ صاحبَ ذوق رفيع، يحرص على تنسيق الألوان والأشكال الهندسيّة حتى داخل مكتبه ومكاتب الموظّفين، يطربُ للجمال حيثما وجده فيحرصُ على إظهار الإدارة في مظهر يَسُرُّ النّاظرين، زدْ على ذلك هدوءه إذا خاطب مَنْ حوله، يتكلّم بصوت خفيض فيُقنع السّائل ويبدِّد قلق الحيْران. إنّها صورة الإداريّ الحاذق الفنّان الذي يمتلك ناصيةَ التّواصل.
من الظلم أن أختصر مناقب الدكتور محمد في كلمات معدودات ... لكنّي حاولتُ أن تكون كلمات ليست كالكلمات. عاشرتُ الرّجلَ سنواتٍ طوالاً، فوجدتُ فيه نعْمَ الصّديق الصّدوق ونعْم السَّند في أيّام المحن الثِّقال، كان يَحزَن لحزني، لا يفارقني وأنا ملتاعٌ في لحظات الجمْر التي فقدتُ فيها ابني زهير ثمّ أمَّ زهير وهي في ريعان شبابها ... فيُغْدِقُ عليَّ من رعايته وعطْفه في حلّي وترحالي ...
عندما نريد وصْفَ أفضال الكِبار تتعطّل لغةُ الكلام ...
** **
أ. د. أحمد الودرني - قسم البلاغة والنقد - جامعة الإمام