شكرًا لأوَّل أُستاذٍ جعلني أقف مع تجرِبة البحث العلميِّ وقفةً جادّةً، تتفرّد عن غيرها! لاسيَّما أنَّها قائمة على منهجيّةٍ معنيّةٍ بالتَّأصيلِ العلميّ المعرفيّ للأساليب البحثيَّة مقامًا أولًا، ثمَّ اعتمادها سلامة التصوّر، وحسن الاشتغال مقامًا ثانيًا.
تجرِبة ترى أنَّ الباحث الجادّ، عليه أن يبحث عن نفسه من خلال بحثه ليتوالف معه فيسكنه، ويستقرَّ معه، فيكون هو والبحث صورتين لبعضيهما!
ولا أُشبّهه في تجربتي معه، إلَّا بأديبٍ ذي طرازٍ رفيعٍ رأى زكي مبارك بأنَّ له «قدرة على إنشاءِ فتنٍ روحيّةٍ وذوقيّةٍ وعقليّةٍ، تخرج - كما رأى - من صحبتهِ بمحصولٍ جديدٍ من القلق ِ[المحمود] أو الاطمئنان». وهاتان الصِّفتان - على تضادِّهما - كانتا معه مُتنامِيتَين مُتعاضِدتين تدعمُ إحداهما الأخرى في البحثِ عن جزءٍ مُكمّلٍ للباحث؛ ليكون معه الاختلاف!
شكرًا لمن تعلّمتُ منه أنَّ حياة العلم فيّاضة معطاءً لمن أراد أن يسلك طريقها، وما كان فيها من مشقّة فهو مبعث قوّةٍ سيؤول إلى راحةٍ وثقةٍ وثباتٍ. وأنَّ أخذ العلم لا يكون إلَّا بالغوص في أعماقِ الكتب لالتقاط ما تَحَجَّبَ بين السَّطور والمسائل، ممَّا لا أراه إلَّا بعين المتأمِّل المشغوفِ بتجاوز الظَّاهر إلى المخفيِّ، غايتي معرفةٌ أخرج بها عن المألوف!
شكرًا لمن تعلّمتُ منه كيف يكون استثمارُ متونِ الكتبِ وآراءِ أصحابِها؛ إذ علينا أن نتحصَّن بالكثير منها، حتَّى تكون حاضرةً في أذهاننِا، إن احتجناها استدعيناها؛ لنعرضها كما يجب، ملائِمةً للموطن الذي ستكون فيه، لا تباهيًا بها، ولا زهواً بمرجعها الذي تُوثّقه حاشية؛ بل لأنَّنا نستطيع أن نَعبُر بتلك الآراء - مع احترامنا لأصحابها- لما هو أوسع من بابها الذي جاءت فيه، عبورًا يدرأُ بها أن تقع تحت مَظِنَّة التَّكْرار، أو أن تكون بلا فائدةٍ مرجوّة، سلاحُنا حججٌ نلتفت إلى دَلالاتِها وفق ما يُغني، ويُقنع، ويُضيف.
شكرًا لمن تعلّمتُ منه قيمًا، أعلاها قيمتان:
النَّقد البنَّاء؛ الذي يرفع صاحبَه مادام متحصّنًا بأخلاقِ الناقدِ الحصيفِ ومنهجيّتِه، مؤمنًا بأنّ زوايا الرؤى المتعددة -على اختلاف معاييرها - أفقٌ يُتنفّس منه بلا اختناق.
ثمَّ التمسُّك بالرأي المقنع ذي المكانة العلميَّة؛ فهو ما يحصده الباحث بجهده من أرضٍ خصبةٍ لا قحطًا تشكو ولا قحلًا، رأيٌ اجتهدتُ في تحصيلِه، ليس لي أن أتنازل عنه، لاسيَّما إزاء رأيٍ – لا صحَّة فيه- محشوٍّ بالوهن مُغطًّى بالوهم!
شكرًا لمن زكّى علمَه، بإحسانه لطلَّابه وغيرهم أيَّـما إحسان!
حيث كان ومازال موردًا، يجري ماؤه عذبًا نميرًا، يُجيب، ويُعين، ويُشير؛ حتّى صار عُمدةً في مسائل البحث العلمِّي، ومقاربات مناهج النَّقد الحديثة، منهجه فيها دون غلوٍ ولا تقصيرٍ، فما هي -بحسب رأيه- إلَّا وسيلةٌ لاستنطاق النَّصوص لا غاية؛ وإنّه من القلَّة الذين اصطفاهم الله وسخّرهم لخدمة العلمِ، وأهلهِ، وطلاّبه، تفضّلًا وتكرّمًا عن طيبِ خاطرٍ وتواضعٍ!
شكرًا لمن تعلّمتُ منه كيف هو الوفاء للأساتيذ بذكرٍ ظاهره كباطنه امتنان!
وإنَّ من أعظم مظاهر الوفاء أن يفخر الأستاذ أمام طلَّابه بأساتيذ العلم الّلذين درّسوه وأشرفوا عليه، ويُدين لهم بالشَّكر والعرفان داعيًا ومُؤَمِّنًا!
فلا يتوانَى عن نعتِ شمائِلهم، وذكر مناقِبهم، ووصف مقامِهم الرفيع الذي لهم من نفسه، وإنَّهم - وللحق- خليقون بذلك وأكثر، وهو ممن تأثَّر بهم حتّى شابههم (فما ظلم)!
ولقد علّمني ذلك أنَّ استحضار المعروف في أهله مروءة ووفاء و» أنَّ المعارِفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ!»، والشُّكر عزيزٌ، وصاحبُه يَعقب المشكور في الفضل والإحسان.
شكرًا جزيلًا لأستاذي الدكتور محمد القسومي، الذي وثقَ بما عندي، فأحسنَ إنبات الهمّة، وتعهَّدَ الريَّ بمدد توجيهاته الغنيّة، فكان نعمَ الزّاد الذي استوى العُود معه قائمًا، مُـحاولًا أن يخطَّ لنفسه مكانًا في طريق العلم والبحث، ولولا تعهّدُه الكريم -بعد فضل الله- عليَّ لَــمـا وصلتُ لـِـما أنا عليه الآن!
ظــلٌّ ..
إِنَّ الْجمالَ معادنٌ
ومناقبٌ أورثنَ مجدَا
(عَمْرُو بن مَعْدِي كَرِبَ)
** **
أروى بنت أحمد الحكمي - باحثة دكتوراه في الأدب والنقد