د.محمد بن عبدالرحمن البشر
يعتبر الرحالة نيبور أول رحالة غربي يزور الجزيرة العربية، كما زار بعض دول المشرق مثل مصر والعراق وإيران والهند وعمان والقسطنطينية، ومكث مدة طويلة في اليمن وفي العراق، وأهمية الرحلة تكمن في توقيتها والظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي كانت سائدة في تلك البلدان في ذلك الوقت، فأعطى صورة فريدة وسابقة لم يعطها غيره من الكتاب المستشرقين، لأنه كان يفكر خارج الصندوق، كما يقال، مع خلفيته الثقافية المختلفة وتحامله بعض الأحيان، بسبب مقارناته، وآرائه وبواعثها.
ولد نيبور عام 1933 ميلادياً في قرية ألمانية تقع في الشمال الغربي من ألمانيا، وترعرع في قريته، ثم عمل في مزرعة العائلة البسيطة، لكنه كان محباً للرياضيات، فهجر المزرعة واتجه للدراسة، فصادف أن ملك الدنمارك قد قرر أن يرسل بعثة تقصي الحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المشرق والجزيرة العربية ورسم خرائط لها، واقترح أحد أساتذة نيبور عليه المشاركة في هذه الرحلة وتمت الرحلة التي انطلقت عام 1761 ميلادياً، وبعد الموافقة على مشاركته، ودراسة مكثفة للخرائط الجغرافية، واللغة العربية، وكذلك التاريخ، وما استطاع أن يعرفه مما هو متاح عن تلك البلاد التي سوف يزورها، وكما هو معلوم فإن وسائل المواصلات البحرية والبرية في ذلك الوقت بسيطة، سفن شراعية في البحر، وخيول، وجمال، وحمير، وبغال في البر، لهذا فقد كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، أضف إلى ذلك الأوبئة، والأمراض، وقلة الأمن، لكنها الرغبة في معرفة المجهول.
يبدو أن هدف الرحلة لم يكن سياسياً، وإنما كان معرفياً، تم اختيار خمسة أشخاص لهذه المهمة، رسام، وطبيب، ومهندس، وعالم نبات مشهور، ونيبور المتخصص في الخرائط، لم يكن هناك وقت كاف قبل الرحلة ليتعرف أفراد الرحلة على بعضهم البعض بشكل كاف، لهذا لم يكن الانسجام قائمًا، وكان فقيه اللغة فون هافن يرى نفسه رئيس البعثة، وأراد أن يفرض نفسه، وكان شرس الطباع، ولم يكن مقبولاً من أفراد البعثة الآخرين، وتعامل كل منهم معه طبقاً لجبلته النفسية، فمنهم من صبر وسايره، ومنهم من كان في خصام مستمر معه.
نيبور لم يكن مسايراً لفون هافن، وإنما كانت له شخصيته وآراؤه المستقلة، وقد وصل الصراع والمنافسة بينهما إلى حد محاولة الاغتيال بالسم، وهكذا سبحان الله الطبيعة البشرية مهما كانت البيئة والثقافة الاجتماعية، يظل الإنسان مجبولاً على المنافسة والغيرة والحسد واختلاف الطباع، من شرس قاس ظالم إلى خيّر متسامح، والجميع سيترك الأرض ومن عليها.
مات الجميع في الرحلة بمرض الملاريا الذي لم يكن له علاج ذلك الوقت، ما عدا نيبور الذي مات عام 1815 وترك لنا إرثاً علمياً رائعاً، يتمثل في هذا الكتاب، وكذلك مذكرات زميله فورسمان الذي كان قريباً منه نفسياً أثناء الرحلة، وكانا فيما يبدو يقفان معاً في وجه استعلاء فون هافن المفرط ويحدان من المبالغة في تجاوزاته المفرطة.
في ظني أن نيبور كان مبالغاً في عدم الرضا، وكان دائم التذمر، ويكتب بسلبية كبيرة جداً، ولم يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، لم ير الموسيقى الشرقية ممتعة له، ولم ير الأعراس التي تقام ذلك الوقت جميلة، كما لم تعجبه الطبيعة، ونظر إلى الأزياء والملابس بازدراء وتهكم، وحتى مياه الشرب رآها قذرة، كما بالغ في ادعائه بإهانة المسلمين لغيرهم ممن يعتنقون المسيحية واليهودية، مع أن الكنائس والمعابد كانت موجودة، ويمارس فيها مرتادوها عباداتهم بيسر وسهولة، أما كونها لم تكن جميلة مثل الكنائس في أوروبا، فإن المساجد كذلك لم تكن جميلة، والسبب ضيق الحال في بعض مناطق المشرق.
وصف المخاطر التي واجهتها الرحلة وأفرادها في البحر والبر، ووصف تعرضهم لمحاولة القرصنة والنهب من بعض العبيد المسيحيين الساكنين في مالطا، ومن القراصنة المنتشرين في البحر الأبيض المتوسط، أما في البر فقد وصف النهب الذي يقوم به البدو في كل مكان يوجدون فيه، وكذلك محاولة استغلالهم وابتزازهم من بعض الفلاحين والوسطى، وأيضا من العاملين مع الحكام والسلاطين، وكان يبالغ أحياناً في ذلك الوصف ليعطي صورة قد يكون فيها شيء من الحقيقة لكن ليست تلك الصورة القائمة التي أظهرها بها منطلقاً من قناعته وطبيعته، ويمكن النظر إلى ذلك من خلال الأوصاف المبالغ فيها أحياناً، لكن في الواقع كان يعطي حقيقة واقعة، لكنها مبالغ فيها بشكل واضح. وسنكتب تباعاً مقالات نقف فيها عند بعض ما ذكره.