يكون الرثاء دائماً معبراً وحزيناً لأنه ينبع من قلب مفطور على فراق ورحيل أحبة لنا من الأقارب والأصدقاء والإخوان الذين اختطفتهم يد المنون، فنجد في رثائهم ربما ما يعُزّينا ويخفف من مصابنا وأحزاننا قليلاً، وما أنفاسنا إلا حساب ولا أحزاننا الإفناء.
أمل أن أحيا وفى كل ساعة
تمر بي الموتى تهز نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن ليي
بقايا ليالٍ من الزمان أعيشها
إن ألم الفقد مؤلم ويترك أثرًا بالغًا وأسى وحزناً بالنفس، خاصة إذا كان الفقد مفاجئًا وسريعًا، ولقد فقدنا بالأمس وودعنا الصديق الأستاذ الدكتور رجل النبل والبشاشة وكرم النفس الأخ سليمان بن عبدالله بن صالح الرومي مجاور مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأكرم بها من مجاورة وجوار بنيت على ما تكنه نفسه الطيبة من محبة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وسيرته العطرة، لتتعطر أنفاسه تعلقاً بمدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكأني به -رحمه الله- وهو يتحدث معي عن سكناه بالمدينة المنورة ومجورته لها ينشد قائلاً:
دار الحبيب أحق أن نهواها
ونحن من طرب إلى ذكراها
كيف لا وهي مدينة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وموطن هجرته ومرقده الشريف، وقد حباها الله بالفضائل وزينها بالأنوار، فكيف لا يحبها وهو من سكنها لأكثر من ثلاثة عقود وتعلق بها وأحبها -رحمه الله-.
اجتمعت معه منذ سنوات، وكنا ضيوفاً بالمهرجان الوطني للجنادرية، وكنت ألتقيه وأجتمع به، وكان يلح علي بزيارته بالمدينة المنورة، وأن يجمع الأحبة من أبناء محافظة الزلفي الذين يسكنون المدينة المنورة، وفهمت أنه من يحرص على جمعهم ويجتمعون اجتماعات دورية، وبينهم قروب حرصًا منه على الصلة والتواصل والاجتماع، لأنه رجل واجب.
وكم كان -رحمه الله- إذا سنحت فرص التلاقي بيننا في الرياض أو الزلفي أو المدينة المنورة، حيث يحلو له الحديث عن المدينة حرم الله الآمن، وعن التطور والنهضة التي قامت بها، ومنها توسعة المسجد النبوي، وعن فضائلها وأسمائها، وكنت أرى في عينيه بريقًا مشعاً ينم عن مدى تعلقه وهيامه وحبُه لها حتى الصبابة، وهذا -وأيم الله- دليل على ما يحمله قلبه النقي من تقوى وورع ومحبة لله -عز وجل- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال لي ذات مرة:
- إذا ما خرجت من المدينة المنورة لا ترتاح نفسي وتتوق إلا إذا رجعت إليها بعد غياب ورأيت أنوارها.
وسبحان من جعل له القبول بالأرض، الكل يثني عليه ويشهد له بالخير، وكم كانت جنازتهم مهيبة بتلك الأعداد الغفيرة من المشيعين الذين توافدوا لجامع الملك عبدالعزيز بالزلفي، والذين امتلأت بهم رحبات المسجد عن آخره، وكذلك بالمقبرة، وكان قد صلي عليهم بالمسجد الحرام بعد صلاة الفجر، ثم نقل جثمانه وزوجته إلى مسقط رأسه الزلفي ليوارى الثرى إلى جانب زوجته، وسبحان من سخر لهما تلك الأيادي البيضاء ممن شهد الحادث، والتي بادرت بدورها لنقل المصابين إلى المستشفى، والذين أسأل الله لهم الشفاء العاجل، وسبحان من ربط على قلب أمه الرؤوم، وأبنائه وبناته المكلومين وهم يشاهدون الحادث يقع أمامهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولعل ما يخفف ألم المصاب الجلل تلك الخاتمة الحسنة التي كتبها الله -سبحانه وتعالى- لهم، إذ وقع الحادث وهم محرمين بلباس الإحرام وملبين لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فهنيئًا لهم تلك الخاتمة الحسنة التي كتبها الله -عز وجل- لهم، ولم أشهد بأم عيني في هذا الجامع مثل جنازته وزوجه -رحمهما الله- والناس هم شهود الله في أرضه، وهذا يدلل على مدى المكانة والمنزلة والمحبة التي كانت له في نفوس إخوانه وأصدقائه ومحبيه وزملائه الذين عرفوه وخبروه ورافقوه وربطتهم به وشائج من العلاقة القائمة على المحبة في الله -عز وجل-.
رحم الله الصديق الوفي لإخوانه ومحبيه وأرحامه، ورحم زوجته رحمة واسعة، وأسكنهما الله دار كرامته الفردوس الأعلى من الجنة ووالدينا، وشفى الله المصاب من أبنائه.. وعزاؤنا لوالدته المكلومة بفقده وإخوانه وأولاده النجباء، وأثني العزاء لأسرة الرومي، وربط على قلوبهم جميعاً ورزقهم السكينة والثبات، ولا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
- فهد عبدالعزيز الكليب