د. محمد بن إبراهيم الملحم
تبرم العلماء من المدرسة والذي أوردت أمثلة لهم في علمائنا المسلمين من رواد النهضة العلمية وعلماء الاكتشافات العلمية الغربية مثل الإنجليزي أديسون والألماني آينشتاين والأمريكي فاينمان والسوفييتي الروسي شاخاروف، هو تبرم نتيجة جو المدرسة النمطي الرسمي الذي يملي على كل من المعلم والمتعلم قيودا معرفية محكمة ويحيلهم إلى أدوات إنتاج اقتصادي محدودة لا إلى عوامل تكوين وبناء علمي أو نهضوي. المدرسة في هذه الحالة تغدو سجنا لكثير من هؤلاء المبدعين، وكم رأينا أمثلة لأناس أبدعوا في مجال الابتكار والبحث العلمي بعد مرحلة البكالوريوس أو ربما بعد الدراسات العليا بينما لم يكونوا من الأوائل أو المتميزين في المدرسة، ومن أهم الأسباب الرئيسة أن القيود المعرفية قلت عليهم كثيرا فتفتحت آفاقهم وتحسن إدراكهم الفكري ونضجت تصوراتهم العلمية، وحيث إني أتحدث عن بيئتنا فأقول مع أن هذا يحدث لهؤلاء في سن الثلاثين أو ربما الأربعين (وهو ليس متأخرا جدا لحالة الابتكار العلمي والإبداع) لكن بدون شك فإن هذه العقول كان يمكن أن يكون نتاجها أكثر خصوبة وأوفر جودة لو بدأت رحلتها مبكرا منذ المرحلة المدرسية الأولى، ليمثل تراكم المعرفة والخبرة منذ تلك السن رصيدا تصل ذروته لدى هذا الفرد في سن الأربعين وتتكامل معه الخبرة، لا أن يبدأ تكوين الخبرة في هذه السن ليتبقى من عمر الإنسان سنوات معدودة بعدها قد لا ينتج كثيرا للبشرية، بينما في حالة مبتكري البشرية الرواد والذين ذكرت أسماء بعضهم في مستهل هذه المقالة كان أحدهم لا يذكر بمنجز واحد وإنما بإسهامات متعددة تجدها منتشرة عبر سنوات عمره منذ العشرينات منه إلى الخمسينات وكمثال فإن أينشتاين أطلق نظريته في النسبية الخاصة ومعها معادلته الشهيرة E=mc2 وهو في سن الخمسة وعشرين عاما ثم نظريته في النسبية العامة ومعها قانونه للجذب العام (أو الموجات الثقالية) في سن الخمسة والثلاثين عاما ثم في سن الواحد والأربعين عاما أطلق نظريته في التأثير الكهروضوئي، ومثل ذلك يذكر عن أديسون حيث في عمر 27 عاما ابتكر التلجراف وفي عمر 36 عاما ابتكر فكرة المصباح الكهربائي وفي عمر 41 عاما ابتكر الصور المتحركة ثم في عمر 48 عاما ابتكر البطارية.
المدرسة شبه المثالية التي تأخذ بيد الطالب نحو التعلم والاعتماد على الذات و»تربية» على مفهوم التعلم مدى الحياة وحب العلم وتقدير قيمته وتعلي الشغف به موجودة ولكنها تشكو الندرة الشديدة، ولا تنشأ إلا في بيئة ناضجة اجتماعيا ومتفوقة ثقافيا، وهي كذلك مكلفة وعالية القيمة سواء على الدولة أو على أولياء الأمور إن كانت مدرسة خاصة، ولا أتصور وجودها على مستوى الدول سوى في دول رفاهية المواطن مثل فنلندا والسويد على سبيل المثال، وفي أغلب دول العالم فإنها تتوفر في صيغة المدارس الخاصة وهي مكلفة الثمن كما أسلفت لأن الحصول على معلمين وطاقم إداري مميز يحملون جميعا قيما عليا تمكنهم من تحويل المدرسة إلى بيئة تعلم أشبه بالأسرة الواحدة ليس أمرا سهلا البتة، كثير من هذه المدارس «النادرة» تخرج شخصيات قيادية ابتكارية سواء في مجال العلوم والتكنولوجيا أو في المجالات الأخرى كالقانون والإدارة والسياسة أو الإبداع الفني (الدراما - الموسيقى - الفنون - الأدب)، وقد زرت بعضها في بريطانيا وأستراليا، وهي نتيجة متوقعة لما توفره هذه المدارس من جو علمي راق وقيم تعلُّم سامية تأخذ بألباب طلابها لتحلق بهم في سماء الإبداع، وبالمناسبة فلا أريد أن يفهم من ذلك أن كل مدرسة غالية الثمن هي بالضرورة من هذا النوع البنائي الإبداعي، وهذه نقطة مفهومة لكل من يتأمل ذلك بحكمة ووعي مناسب وبدون مزيد من التعليق.