د.عبدالرحيم محمود جاموس
(الإخوة الأعداء)، هو عنوان رواية الروائي اليوناني المبدع نيكوس كازانتازاكيس، والتي تُعد من أهم الأعمال الروائية التي قدمها المؤلف والتي قدم فيها الحرب الأهلية التي شهدتها اليونان وسقط فيها ضحايا بعشرات الألوف، تلك الحرب التي مثل طرفيها الأنصار أتباع الحزب الشيوعي اليوناني من جهة، والنظام الملكي والموالين له من المحافظين من الإقطاعيين والرأسماليين والمدعومين من الكنيسة من جهة ثانية..
لقد أبرزت الرواية (الأخوة الأعداء) أهوال تلك الحرب ووقودها من البسطاء والفقراء من قبل الطرفين المتصارعين.. والكل كان يدعي الغيرة على اليونان وعلى الوطن ووحدته وعلى اليونانيين..!
هذه الرواية الإبداعية التي كشفت وسبرت أغوار تلك الحرب الأهلية المجنونة وانقسام المجتمع وتدمير نسيجه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بينت أن أيًا من الفريقين لم يكن منتصرًا، فهناك إما منتصر واحد هو (اليونان) أو هناك منهزم واحد أيضًا هو (اليونان).. ففي الصراعات والحروب الأهلية دائماً لن يكون هناك منتصر، هناك مهزوم واحد هو الوطن الواحد، ويتبعه مهزوم واحد أيضاً هو الشعب أو المجتمع..
فإن استمرار عبثية تلك الحروب والصراعات الأهلية نتيجتها واحدة وهي هزيمة الدولة بكل مكوناتها من سلطة ووطن وشعب.. إلى أن يخرج فريق ثالث ويلزم طرفي أو أطراف الصراع والحرب الأهلية على وقف الاقتتال ووقف لغة التكفير والتخوين، وحقن الدماء والتسليم أن الجميع شركاء في الوطن وفي المجتمع وأن مصلحة الوطن والمجتمع تكمن في وقف الحرب والإصغاء إلى لغة العقل وتعطيل آلة الحرب والقتل والدمار وتفعيل آلية الحب والمؤاخاة والمساواة والمشاركة في صناعة الحياة والحفاظ على الأرواح والممتلكات.. وبالتالي الحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، ووقف كل سياسات العداء بين الإخوة.. واستعادة روح الأخوة والمحبة والمشاركة والمواطنة..الخ.
هذه الرواية تنطبق ليس فقط على اليونان وما شهدته من حرب أهلية بل على كل دولة أو مجتمع تشهد مثل هذه الحروب.. وكم نحن بحاجة في وطننا العربي إلى أن نستفيد من العبرة والرسالة التي قدمتها هذه الرواية الإبداعية والعالمية، فلنتذكر ما حل بلبنان في الربع الأخير من القرن العشرين من حرب أهلية استمرت خمسة عشر عامًا كانت تدعي فيها أطراف الصراع الغيرة على الوطن.. أزهقت ما أزهقت من الأرواح وشردت ما شردت من المواطنين ودمرت البنيان المادي والنفسي للبنان..
كذلك ما حصل في العديد من الدول العربية خلال السنوات التسع المنصرمة تحت ما سمي ظلمًا بالربيع العربي.. وما آلت إليه الأوضاع في هذه الدول وخصوصاً سوريا والعراق واليمن والسودان وليبيا وتونس..
وأما فلسطين التي هي على حد السيف دائماً لم تكن الاستثناء بالمطلق بل قدمت نموذجًا من الصراع على النفوذ والتفرد والإقصاء والتكفير والتخوين.. والذي حال دون تحول هذا الصراع فيها إلى حرب أهلية، عاملان أساسيان الأول هو: خضوع فلسطين تحت الاحتلال والاغتصاب الصهيوني من جهة، والعامل الثاني هو: عقلانية التيار الوطني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة «فتح» التي تؤمن بتحريم الاقتتال الداخلي واعتبارها الدم الفلسطيني خطًا أحمر لا يجوز تجاوزه تحت أي اعتبار، رافضة أي تبرير لاستخدام العنف في مواجهة أي طرف داخلي، وأن العنف فقط لا يمكن استخدامه إلا في مواجهة العدو الرئيسي وهو الاحتلال، داعية إلى حل الخلافات الداخلية مهما علت بالحوار وبالحوار فقط دون غيره مهما تعقدت وتعددت أسباب الخلاف.. فقد حالت هذه الثقافة وهذا الالتزام المبدئي من التيار الوطني دون وقوع الشعب الفلسطيني في أتون الحرب الأهلية وفوّت الفرصة إلى غاية الآن على المتربصين وفي مقدمتهم الاحتلال الصهيوني من الوقوع في حرب أهلية تفضي إلى تحقيق أحلام المشروع الصهيوني وتقضي على أحلام وأماني وآمال الشعب الفلسطيني باستعادة وطنه وهويته واستقلاله وحريته وبناء دولته المستقلة، وحقنت دماءه وحافظت على نسيج المجتمع الفلسطيني الواحد والموحد، لكن ظهور تيار الإسلام السياسي في نهاية ثمانينات القرن الماضي ممثلاً في (حركتي حماس والجهاد) خلق حالة من الانقسام الرؤيوي السياسي ما أتاح للعدو مباشرة ولقوى عديدة إقليمية ودولية للعب على إذكاء هذا الانقسام بين التيار الوطني والتيار الإسلاموي الذي لم يترك صفة من صفات التفريط والتخوين والتعهير والتبخيس إلا وحاول إلصاقها بالتيار الوطني وقذفه بها مبخساً كل نضالاته منذ النشأة والتأسيس وكذلك إنجازاته، ناسباً لنفسه الطهر والعفاف والاستقامة والإخلاص والتمسك والثبات، نافياً هذه الصفات عن التيار الوطني الذي سبقه في النضال والوجود وإنجاز الإنجازات التي قدم الشعب الفلسطيني التضحيات الجسام من أجل تحقيقها، رافضاً أن يكون شريكاً أو مكملاً للتيار الوطني السباق في تأجيج الثورة والكفاح والنضال من أجل استرداد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.. إلخ.
وقد تعمق الخلاف السياسي بين التيارين واشتد أواره بعد أن شاركت حركة حماس في الانتخابات التشريعية في 25 يناير 2006م وفوزها على التيار الوطني الذي سلم لها بالنتيجة وكلفت بتشكيل الحكومة.. وهي ترفض كل الأسس التي قامت على أساسها السلطة الفلسطينية كنتيجة لاتفاق أوسلو بين م.ت.ف والعدو الصهيوني.. والذي رفضه التيار الإسلاموي وعمل بشكل ممنهج لإفشاله والقضاء عليه لاعتباره يمثل تفريطًا بالحقوق الوطنية الفلسطينية والعربية والإسلامية في فلسطين ويمثل خيانة واضحة من قبل التيار الوطني للقضية الفلسطينية بكل أبعادها الوطنية والقومية والدينية..!!!
وهنا بدأت المعضلة تعلو على السطح، والتناقض بين الفكر والممارسة لدى التيار الإسلاموي الذي يرفض كل الحلول السياسية للقضية الفلسطينية ولكنه يزاحم وينافس على الاستحواذ على المنافع التي تحققت أو قد تتحقق من هذه الحلول..! وهنا يتغلب عليها فكر الاستحواذ والاستفراد والاقصاء للآخرين والذي ترجم بالانقلاب الدموي الذي أقدمت عليه ميليشياته يوم 14/ 6/ 2007م بالانقضاض على مؤسسات السلطة ومطاردة كل العناصر المؤسسة لها بحجة التمكين في الحكم بعدما فازت بتلك الانتخابات المشؤومة التي ما كان يجب أن تتم، والتي تمت تحت ضغط دولي أمريكي واضح لتأكيد هذه الثنائية السياسية المتعارضة في الكيانية السياسية الفلسطينية بغرض إضعاف م.ت.ف والتهرب من الاستحقاقات التي كانت تفرضها الاتفاقات الموقعة وما تهدف إليه عملية السلام من إنهاء للاحتلال الإسرائيلي للأراض الفلسطينية المحتلة عام 1967م وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
هكذا بدأ الصراع الداخلي يأخذ منحاً جديداً ومعضلة كأداء أمام النضال الوطني الفلسطيني بسبب ما خلفه هذا الانقلاب من انقسام سياسي رؤيوي عميق كان المستفيد الأول منه الكيان الصهيوني والقوى الإقليمية والدولية المستثمرة في الصراع العربي الإسرائيلي.. وتمضي الأيام والسنوات حتى بلغت أحد عشر عاماً ونيف على هذا الانقسام والذي شهد الحوار تلو الحوار والوساطة تلو الوساطة والاتفاق تلو الاتفاق من أجل إنهاء هذا الانقلاب وما نتج عنه من انقسام، ولكنها جميعها باءت بالفشل بسبب ثقافة التخوين والتكفير والطهر وما يستند إليها من فكر الاستحواذ والاقصاء والتفرد بالإمساك بالقضية الفلسطينية رغم كل المناورات والسياسات المتناقضة التي يعبر عنها التيار الإسلاموي بين الفينة والأخرى والظهور بمظهر المظلومية ومظهر المقاومة الشريفة في الوقت نفسه الذي لم يعد خافياً حجم التناقض بين تلك الشعارات الثورية لتضليل السذج والدهماء.. وبين الممارسات السياسية والتحالف مع قوى إقليمية ترفض خيارات التيار الوطني وتتآمر عليها بالتنسيق الكامل مع العدو الصهيوني الذي بات يظهر حرصه على استمرار هذا الانقسام السياسي والجغرافي الذي أحدثه انقلاب حركة حماس واستمرار تفردها في حكم قطاع غزة كي يجهز على أحلام الشعب الفلسطيني بقيادة التيار الوطني في إنهاء الاحتلال للأراضي المحتلة عام 1967م وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس..، هنا تبرز لدينا أهمية رواية (الإخوة الأعداء) وأخذ العبرة وتمثل الرسالة الأخلاقية والسياسية التي عبرت عنها وهي استمرار هذا العداء بين الإخوة وبين التيارين الإسلاموي والوطني هناك منتصر واحد هو العدو المتربص بالكل الفلسطيني على اختلاف ألوانه السياسية والاجتماعية والجغرافية، وهنا مهزوم واحد هو الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بكل أبعادها القومية والدينية والإنسانية، فهل يدرك الطرفان هذه الحقيقة الصادمة أم سيستمران في تجاهلها، لقد أدرك ذلك التيار الوطني لهذه الحقيقة مبكراً وقدم من جانبه كل ما يلزم من أجل إنهاء هذه الحالة الشاذة، لكن تيار الإسلام السياسي (حركة حماس) وحلفاؤها ما زالوا يغضون الطرف عنها ويعملون على تكريس هذا الخلاف ومنحه أبعاداً مختلفة تحت سطوة شهوة السلطة والاستفراد والاقصاء وفكر وثقافة التكفير والتخوين بغض النظر عن كل النتائج الكارثية التي خلفها هذا الفكر وما نتج عنه من سياسات تدميرية لكل النجازات الوطنية التي حققها الشعب الفلسطيني من خلال ثورته المعاصرة.
آن الأوان أن ينتهي هذا الموضوع الشاذ وهذا الصراع المدمر للقضية الفلسطينية بكل أبعادها وأن يلتزم هذا التيار بما تم من إتفاقات بالرعاية العربية وخصوصا منها المصرية والإقلاع عن سياسات العهر القائمة على فكر التكفير والتخوين وما بني عليها من سياسات الاستقواء والاستفراد والاقصاء للكل الوطني.. إن التاريخ لن يرحم والشعوب تمهل ولا تهمل، ولا يمكن لقوة البطش أن تحول دون أن يقول الشعب كلمته وأن ينفجر في وجه الظلم وقوى الظلام التي قادته إلى ما هو فيه من ويل وثبور. فاعتبروا يا أولي الألباب.