محمد سليمان العنقري
أكدت المملكة حرصها على استقرار وتوازن أسواق البترول والتزامها باتفاق ( أوبك بلس ) جاء ذلك في اتصال هاتفي جرى بين سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث تشهد الساحة الدولية حراكاً كبيراً من قبل قادة دول حلف الناتو ومن أبرزهم فرنسا لشرح الموقف من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا حيث تخشى تلك الدول من شح إمدادات الطاقة في حال توقفت أو تعطلت صادرات النفط والغاز الروسي للعديد من الدول الأوروبية إذ تعتبر روسيا من بين أكبر ثلاثة منتجين للنفط وأكبر منتج للغاز بالعالم حيث تغطي صادراتها منه ما يصل إلى 40 بالمائة من استهلاك أوروبا إضافة لما يقارب 25 بالمائة من صادراتها النفطية تذهب أيضاً لدول أوروبية مما يوضح مدى التأثير الكبير لإمدادات الطاقة من روسيا على النشاط الاقتصادي في ثاني أكبر كتلة اقتصادية بالعالم بعد أميركا.
لكن هل هذه الحرب الدائرة هي سبب صعود النفط فوق حاجز 100 دولار أميركي ؟ إن حصر السبب بهذا الحدث الطارئ بتسارع التصعيد فيه يعد بعيداً عن الحقائق في سوق الطاقة العالمية فقد تكون الحرب مسؤولة عن عشرة بالمائة أو أكثر قليلاً من الارتفاعات الأخيرة التي بدأت من مستوى 88 دولاراً مع المخاوف بالأسواق من نقص إمدادات النفط في حال توسعت العقوبات الغربية على روسيا لتشمل الغاز والنفط إذ لوحت بعض الدول بأن ملف عقوبات الطاقة على الطاولة رغم أن إخراج روسيا من نظام سويفت للحوالات المالية العالمي الذي يضم 200 دولة و11000 مؤسسة مالية كان جزئياً ومحدوداً بسبب استبعاد الطاقة من ملف العقوبات حالياً والسماح بتحويل ثمن مشترياتها عبر نظام سويفت وذلك خوفاً من ارتفاعات لا يمكن التنبؤ في المنطقة التي قد تستقر عندها الأسعار صعوداً لأن روسيا لاعب رئيسي في سوق الطاقة العالمي فالاقتصاد العالمي يواجه موجة تضخم غير مسبوقة مقارنة بما كان عليه قبل أربعة عقود تقريباً وارتفاع أسعار الطاقة بنسب عالية جداً سيفاقم مشكلة التضخم ويضعف فرص احتوائه الذي تخطط له البنوك المركزية الكبرى بالعالم كالفيدرالي الأمريكي الذي يتوقع أن يرفع أسعار الفائدة في الشهر القادم مع استمراره بتخفيف مشترياته من السندات حتى الوصول لإيقاف برنامج التيسير الكمي في الشهر القادم أيضاً وذلك لمواجهة التضخم لكن هذه الحرب وتبعاتها غير المعلومة قد تؤثر على خطط البنوك المركزية لأميركا وأوروبا وبريطانيا في تعديل سياستها النقدية لتصبح أكثر تشدداً فهذه الحرب قد تنعكس تأثيراتها في إضعاف نمو اقتصاد أوروبا وأمريكا مع حالة الحذر من قبل المستثمرين لضخ أي أموال في اقتصادات تلك الدول حيث تمثل أوروبا مع أميركا وكندا وأستراليا واليابان وبعض الدول الأخرى التي انضمت جميعها لتطبيق عقوبات على روسيا أكثر من 60 بالمائة من اقتصاد العالم ولذلك يدار ملف العقوبات وأزمة الحرب بحذر شديد لتقليل الخسائر والحد من المخاطر على الاقتصاد العالمي مع الجهود المكثفة لإيجاد حل سياسي لها.
لكن بالعودة لأسعار النفط وارتفاعاتها منذ بداية العام الحالي لتستقر فوق مستوى 80 دولاراً وتخطيها المستوى الحالي فوق 100 دولار فقد توقعتها أكبر البنوك العالمية والعديد من المختصين بالطاقة قبل نشوب أزمة روسيا مع أوكرانيا بعدة شهور وذلك لأسباب جوهرية تتعلق بأساسيات السوق المتمثلة بشح المعروض مقابل نمو الطلب الذي يتوقع له تجاوز 100 مليون برميل هذا العام وفق تقديرات جهات دولية مختصة بشؤون الطاقة حيث نما الاقتصاد العالمي بوتيرة سريعة بهدف التعافي الكامل من تداعيات جائحة كورونا بعد سلسلة حزم تحفيزية دولية بلغت تكلفتها 30 تريليون دولار أميركي منذ بداية الجائحة قبل عامين فهذا الضخ الهائل من الأموال مع فائدة شبه صفرية في أغلب الاقتصادات الكبرى ساهم بتسارع تعافي الاقتصاد وزيادة الطلب على السلع والخدمات كالنفط والغاز لكن ما كانت تحذر منه الدول المنتجة للنفط في أوبك دائماً هو خطورة تراجع الاستثمارات بقطاع الطاقة الأحفورية خصوصاً من الشركات العالمية التابعة لكبرى الدول المستهلكة في أوروبا وأميركا حيث ساهمت سياساتهم بتسريع الانتقال للطاقة المتجددة بإحداث خلل في مزيج الطاقة الذي يفترض أن يحافظوا عليه لمنع تأثير التذبذب بإمدادات الطاقة المتجددة غير المستقرة تبعاً لتغيرات الأحوال الجوية كطاقة الرياح والشمس فقد انخفضت الاستثمارات بقطاع النفط والغاز بنحو 40 بالمائة إلى حوالي 340 مليار دولار في العام الماضي بينما يحتاج العالم لضخ استثمارات بنحو 525 مليار دولار سنوياً حتى العام 2030 ليكون العرض أعلى من الطلب لحفظ التوازن بالأسواق إذ إن العالم سيواجه مشكلة بتناقص المعروض قياساً بالطلب بالسنوات القليلة القادمة إذا استمر التراجع بحجم الاستكشافات للنفط والغاز وعدم رفع الطاقة الإنتاجية الاحتياطية عالمياً فالدول المنتجة ذات النظرة بعيدة المدى وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية حافظت على استراتيجيتها طويلة الأمد بضخ الاستثمارات بقطاع النفط والغاز ولذلك تمتلك أكبر طاقة إنتاجية احتياطية للنفط بالعالم فهي صمام الأمان لاستدامة إمدادات الطاقة والاستثمار بها ودعم نمو الاقتصاد العالمي.
الأسعار قد تبقى لفترة طويلة نسبياً بمتوسط 100 دولار مع احتمال حدوث تقلبات بالأسعار صعوداً وهبوطاً فهذا ما تتوقعه بعض الأوساط العالمية المختصة بالطاقة حتى لو انتهت الحرب الروسية الأوكرانية بحل سياسي وكذلك لو تم رفع العقوبات عن إيران وزاد إنتاجها رغم أن تقارير عديدة تشير إلى أنها تبيع نفطها كما السابق بتحايل على العقوبات التي وضعتها أميركا عليها أي إنها قد لا تتمكن من إضافة أي براميل مؤثرة بحجم العرض العالمي بخلاف أنها كعضو في منظمة أوبك لا بد أن تنضم للاتفاق الحالي إذا تم التوصل لحل لملفها النووي فالعامل المؤثر سيبقى بتوجهات الأسعار هو ارتفاع نمو الطلب بأعلى من نمو العرض بالسنوات القادمة الذي بدأت التقديرات حوله تبشر بأن يصل لفجوة مؤثرة سترفع الأسعار لأعلى من 120 دولاراً وفق تقديرات بنك جي بي مورغان الذي يعد من اكبر البنوك العالمية ولن تعالج مشكلة شح العرض المستقبلية إلا بتغيير في السياسات المعرقلة للاستثمار المناسب في قطاع النفط والغاز لدى الدول الغربية في أوروبا وأميركا تحديداً فالمهرولون نحو الطاقة المتجددة بنسبة عالية ومتسارعة دون مراعاة لتوازن مزيج الطاقة ما بين المصادر المأمونة والأخرى المتذبذبة هم من سيتسبب بأزمات الإمدادات وتصاعد الأسعار مستقبلاً.