حسن اليمني
عندما بنى الرئيس الروسي بوتين خطابه التاريخي المتلفز في التاسع عشر من فبراير الحالي على التاريخ، ثم انتقل في المتن إلى شرعية تصحيح أخطاء التاريخ، وانتهى بالعمل الفعلي للمرحلة الجديدة بعزمه توقيع قرار استقلال أجزاء من أوكرانيا، فكان هذا بمثابة الشروع الفعلي في عملية تصحيح التاريخ من الجانب الروسي.
حينما تعلن قوة عظمى عزمها تعديل التاريخ فإن الرد الطبيعي من القوى المنافسة والأخرى المستهدفة أحد أمرين، إما بلع الأمر وإن صعب هضمه أو الرفض، والرفض يستوجب استعداداً لمنع المرفوض، والاستعداد يختلف حسب الحال، ويأخذ مراحل التصعيد الطبيعية للاشتعال، أو ربما تشتعل جمرة الحرب صدفة دون رغبة الأطراف، لكنه في كلا الحالين، الاستعداد أو مباشرة الحرب، توصل لنتيجة واحدة ولا يختلفان إلا في كون الأول يأخذ وقتاً للتهيئة والتسخين وعضّ الأصابع، والثاني يتورط طرف في إشعاله دون قصد.
ذكر بوتين القرن السابع عشر ونسي القرن الثامن عشر أو تجاهله، تجاهل الحرب العثمانية الروسية في القرم عام 1853م، ونسي أو تجاهل معاهدة باريس عام 1856 التي نصت على حياد البحر الأسود، وبالتالي خروج السفن الروسية إلى بحر البلطيق، واعتبار الأسود بحراً عثمانياً، وكما قلت في السطور السابقة فإن استعادة التاريخ لتشريع تصحيحه، يؤدي إلى قبول أو رفض، وإن الرفض يعني منع المرفوض، فقد ظهر وزير خارجية بريطانيا ليُذكِّر الروس بتلك الحرب والمعاهدة، وفور ذلك حصل اتصال بين رئيس الوزراء البريطاني والرئيس التركي، وبحسب تسريبات إخبارية فإن الحديث دار حول القرم، وإمكانية إنشاء حلف تركي بريطاني لمواجهة روسيا طالما أن الولايات المتحدة الامريكية غير راغبة في الحرب، ما استدعى بوتين للاتصال بالرئيس أردوغان فوراً، وبطبيعة الحال للتهدئة والتبرير لوقف الاندفاع باتجاه ظهور هذا الحلف، وقد ذكرت في مقال سابق أن هم بوتين هو القرم لموقعه الاستراتيجي الذي يتيح لروسيا مشاركة تركيا في البحر الأسود، البحر الأسود بحيرة شبه مغلقة إلا من لسان ضيّق يوصل لبحر مرمرة التركي، ومنه إلى مضيق الدردنيل التركي أيضاً، ومنه إلى البحر الأبيض المتوسط، كما أن شبه جزيرة القرم تكاد تغلق بحيرة ازوف التي تطل عليه روسيا وتقترب شواطئ القرم الجنوبية من روسيا في مضيق (كيرش) أي أن شبه الجزيرة هذه تفصل روسيا عن البحر الأسود تماماً، وهذا ما يجعل روسيا ربما متمسكة بهذه الجزيرة بأي شكل كان، وحين ضمت الإمبراطورة كاثرين أوكرانيا إلى روسيا كان من ضمن الأراضي الأوكرانية شبه جزيرة القرم، وهو ما صححه وأكده ووثقه الرئيس السوفييتي خروتشوف حين أعاده لجمهورية أوكرانيا السوفيتية.
مملكة بريطانيا لم تكن أبداً تقبل وجود قوة منافسة لها في أوروبا وبحر الشمال، وبالتالي لا تنظر للقوة الروسية بعين الارتياح، وحين ذكّر وزير الدفاع البريطاني روسيا بحرب القرم منتصف القرن الثامن عشر، فهو يذكرها أيضاً بالحلف العثماني البريطاني الفرنسي، طالما أن الأمر تاريخ وتصحيح، وعليه إذن فإن الاهتمام الآن منصب على شبه جزيرة القرم، وما حدث في دونباس من قبل روسيا بإعلان جمهوريتين ليس إلا خدعة روسية لدفن القرم في الحضن الروسي، تركيا التي كانت غائبة عن الأحداث في الأيام الماضية بزيارة الرئيس أردوغان للإمارات العربية المتحدة ثم الكونغو الديمقراطية والسنغال إلا أنه قطع زيارته لغينيا بيساو بسبب وفاة ضابط في حرس الرئيس، لكن الموقف التركي كان من البداية منصباً على شبه جزيرة القرم الذي يتواجد فيه التتار المسلمون أو من بقي منهم بعد تهجير ستالين لهم في عهده، والأمر أشبه بلعبة شطرنج يضع بوتين بيدق في دونباس لصرف الأنظار عن القرم، ولكن يبدو أن مصلحة تركيا وبريطانيا قد توحدت في استعادة القرم، ومن هنا ستبدأ الأخبار العالمية تتجه لهذه المنطقة، وفي حال الحضور الصيني، وهو مؤكد، ربما تبدأ محاور الأحلاف.