علي الخزيم
(أنا لا أبالي بالأنام.. مللتهم
حسبي بأنَّك مقلتايَ وأقربُ
كرمى لعينكَ سوفَ أنثرُ دمعتي
والدمعُ أشهى في هواكَ وأطيبُ)
الشاعرة اللبنانية سارة الزين؛ بقصيدتها الرائعة (عَتبي عليك) خاطبت زوجها بحضوره أمام مُلتقى شعري أدبي وجعلته بمقام المُقلتين؛ بل أقرب من هذا المقام والقدر والقيمة، فمن ذا يَعدِل غيره بعينيه؟ سوى نقي مُخلص صادق الود، ولم تبتعد الشاعرة عن مسار شعراء العرب وافتتانهم بالعيون وموقعها بالقصيدة العربية منذ القدم، والإنسان بطبيعته حين يتحدث للآخر فإنه يبادله النظرات ويُركِّز ذهنه على العينين وكأنهما مُلتقى الأفئدة ومَحَط الانتباه، وللعرب رأي بمن يخاطبك ويُشِيح ببصره عنك بأنه ربما لا يقول الحقيقة أو أنه يُظهر ما لا يبطن! (وأقول بان من الخُبَثاء من عَسَف عينيه لتكون أخبث من قلبه)، ذلكم أن العيون بمثابة المرآة للقلب تُريك ما يجول بالخواطر، فإما إن كانت النظرات مُتبادلة بين من استفزتهما العواطف ابتداءً؛ فإن لهما سحر يُوقِع بشباك الغرام ولا فكاك منهما إلَّا إليهما! ولقد كانت - ولا زالت - العيون السود الدُّعج الكحلاء بطبيعتها مدار غزليات كثير من الشعراء العرب؛ تغنَّوا بها ومنحوها المساحة المناسبة من القصيدة حتى وإن كان الغرض يبتعد بالأصل عن الغزل، فالعربي (تعميماً) بطبعه رقيق يحترم المرأة ويوفيها حقها بكل الجوانب وعلى رأسها ما وهبها الله من مقومات الجمال وأبرز ملامحه العيون، ولتفردهم بالفصاحة والبيان وعلو شأنهم بالشعر فقد تعارفوا على استهلال قصيدهم بالغزل العفيف اللطيف الراقي.
ولم تتجمّد تلك الأوصاف والغزليات المتمحورة حول العينين ببيئتها القديمة؛ بل تأثرت بمتغيِّرات ومعطيات العصور المتتالية والبيئات الشعرية المتعاقبة، فكلما نمت ملكات الشعراء مستفيدة من تنوع إمكانات العصر المُعيش؛ أينعت أوصافاً ترقى لما يشبه الخيال رونقاً وجمالاً ودقةً بالوصف والتصوير بما يذيب القلوب الرقيقة والولهانة، وقد يُلفت المتابع انجذاب شعراء العرب - لا سيما المتقدمين - إلى سواد العيون دون زرقتها أو عسليتها، كما قال شوقي:
(السِحرُ مِن سودِ العُيونِ لَقيتُهُ
وَالبابِلِيُّ بِلَحظِهِنَّ سُقيتُهُ)،
فذلكم لأن العرب قديماً كانت لا ترى بالعيون الزرق افتتاناً؛ بل عَدُّوها من علامات النفور، فكانت أول عيون زرق يشاهدها قدماء العرب للجواري المجلوبة من خارج النطاق العربي، إذ تتيح عادات وشرائع تلك الشعوب بيع طوائف من النساء للغير؛ ولأن العرب لمسوا بعض الغدر والأكاذيب من بعض تلك الشعوب لا سيما ممن يجاورونهم مما ولَّد عندهم عدم الارتياح لهم ولا لعيونهم الزرق! وبذلك يتجنب شعراؤهم التغزّل بزرقة عيون النساء حولهم، وهاموا بالحَوراء والمُكَحَّلة الهدباء، لكن كما أسلفت فإن تطور وتنامي المُفْردة الشِّعرية مع توالي الفتوحات الإسلامية والتبادل الثقافي ومع تنقّلات التجار العرب أنتج التلميح بجمال العيون الزرق، كتشبيه بدوي الجبل زرقتها بصفاء السماء:
(في مقلتيك سماواتٌ يهدهدها
من أشقر النور أحلاه وأصفاه)
ووجدت أن أوائل العرب سبقوا غيرهم باعتبار زُرقة العيون مرضاً فلم يأبهوا بها، وأثبت العلم الحديث أن سبب الزُّرقة نقص التَّصبّغ داخل العين، وأنها أكثر عرضة للمرض.