الهادي التليلي
هل يمكن أن تقوم حضارة بلا قيم، هل يمكن أن يستقيم تعليم بلا تربية، وهل يمكن أن تبنى أسرة بلا أخلاق؟ كلها أسئلة تحمل في داخلها أجوبتها الساكنة في تلافيف الإجابة بصوت أعلى من الاستفهامات الإنكارية والنقاط التي تلي الكلمات، فالتاريخ يؤكد أن القيم أساس كل حضارة وهي الدستور الضمني الذي تعتمده المجموعة لضمان الألفة بين أفرادها، هذه القيم باختلاف مرجعياتها سواء كانت دينية أو غيرها هي أساس البناء المجتمعي حتى لا يتحول المجتمع إلى غابة والأفراد إلى ذئاب ينهش كل واحد الآخر.
فالتعليم والشهادة العلمية أو امتلاك مهارة معينة من مجالات فنية أو علمية أو رياضية أو غيرها لا يعني بأي حال من الأحوال أن ممتلك تلك المهارة متعالٍ عن الأخطاء، لأن القيم الأخلاقية المتفق عليها بمنزلة القانون والعرف، ومن يرى أنه فوق القانون هو خارج عن القانون، لذلك كانت القبيلة قديمًا أقسى عقوبة توجهها لمخالفي أعرافها هي أنها تخرجهم من دائرتها وتبعدهم، ونظرًا لقيمة القبيلة وحضورها في وجدان وعقل أبنائها فإن الخلع يعاني الإعدام الاجتماعي بقطع النظر عن لحظة التشرد والصعلكة والنفي، لأن القبيلة كما الأرض في ذهنيته لا يوجد ما بعدها.
القيم المتفق عليها داخل المجموعة الواحدة تقنن العلاقة بين الأفراد في ما بينهم وتقنن العلاقة بين الحاكم والمحكوم بمختلف تمظهرات هذا وذاك، كما تميز المجموعة البشرية الواحدة عن غيرها من المجموعات البشرية الأخرى، كما اجتمعت الأمم على ناموس وعرف حول علاقات الجوار بين المجموعات البشرية وحتى التي بينهما مسافة وأيضًا البعيدة جدًا، فالقيم المتفق عليها بين المجموعات البشرية والتي صارت الآن تعرف بالعرف الدبلوماسي تحدد العلاقات بين الأفراد وتضمن علاقات لا تصادمية بينها، وحتى في أزمنة الحروب هناك أخلاق الحروب كعدم المساس بالحرمات الدينية وعدم قتل الجرحى والسفراء.
وبقطع النظر عن طبيعة العلاقة بين المجموعات فإن الثوابت في العرف بين المجموعات البشرية يعد قانونًا من يخرج عنه يخرج من دائرة التوافق الحضاري بين المجموعات البشرية وتمس سمعتها وتوصم بالعار على مدى تسلسل أجيالها، لذلك الخوف من اختراق القانون الأخلاقي بين المجموعات سواء كانت قبائل أو دول مسألة تعود إلى أن تصبح تلك المجموعة منبوذة بين المجموعات، إنها قوانين متفق عليها ومتوارثة ولا يمكن مخالفتها.
هذه القيم التي هي منها ما يمس المجموعة البشرية من الداخل أو حتى التي تواضع عليها مجتمع المجموعات البشرية لتكون إطارًا للعلاقات بينها وإن كانت ليست ثابتة وتخضع للتغييرات الجزئية في سياق النمو والتغير الناجم عن التثاقف أو حتى الذي تفرضه المدنية المتجددة والتي تفترض تحولاً يشبهها ويستجيب للحظتها التاريخية فإنها في هيكلها العام ترفض التغير وتهضم التحولات الداخلية وتعتبرها بمنزلة اللهجة داخل اللغة.
ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام المرئي والسبراني صارت هناك منافسات للهياكل المورثة للقيم الجمعية، فالأسرة لم تعد هي التي تقدم تعليمًا مؤثرًا للأبناء بقدر ما هي في منظورهم قوة معطلة وكابحة لطموحاتهم التي تشبه أكثر البيئات التي يعايشونها في وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما تشبه واقعهم ومحيطهم الأسري، فالأب أصبح نجوم ومشاهير السوشل ميديا، والأب البيولوجي صار في نظرهم المعطل والعائق أمام التحرر، والمدرسة لم تعد كذلك هي البيئة المكونة للأجيال ففي ذهنية الكثير من الشباب هي قاهرة للإبداع والمعلم ليس هو القدوة بل المعرقل، وهي موافق نجمت من نفس تمردي تبثه مختلف قنوات السوشل ميديا مع الاحترام لجهود قلة قليلة تكاد لا ترى بالعين المجردة في زحمة هذا الانفراط، والمجتمع تحوَّل إلى مجتمع افتراضي فصار الجيل عمومًا يجمع بين متناقضين التمرد والتوحد.
القيم الفردية والجمعية تحتاج دائمًا إلى التحيين والمقاومة في زحمة الوسائل والأطراف المنافسة، وطرق تعاملنا وتناولنا لكيفية التواصل مع هذا الجيل تحتاج منا أن نحول طرق نظرتنا له والتخلي عن غرور النظرة العمودية بأن الابن ناقص معرفة يحتاج منا دائمًا أن نوجهه اقتنع أو لم يقتنع نحو ما نريد له بل النظر إليه أفقياً كشريك في الفكر والوعي والمعرفة والتغيير، وعوضًا أن نهاجم وسائل التواصل الاجتماعي علينا كأفراد ومجموعات أن نستثمر فيها ونطوع الألعاب الإلكترونية إلى ما يخدم الجيل والوطن والمجتمع، وأن نستثمر في الذكاء الاصطناعي وننخرط في ثقافته كأفراد قبل أن نكون جماعات حتى نصبح كجيل آباء من المؤثرين في أبنائهم عبر الوسائل التي تستهويهم حتى لا يسقطوا في محاذير الإرهاب والتطرف والجريمة والانحراف، وهو ما استثمر فيه غيرنا كي يخسروننا أعز ما نملك وهم أبناؤنا.