عباس ناصر العمران
ربما من أكثر ما يقطع نياط القلب في حياتنا نحن البشر هو أن نجد أنفسنا في تلك المواقف المُرّة التي نغلفها بغير حقيقتها بدلاً من أن نواجهها بشجاعة، ونُقرّ بحقيقتها، ونتعامل معها بالصدق الصريح بدلاً من الكذب المُجمّل.. إننا نغلفها بسكر المجاملة أحيانًا، ونسميها بغير أسمائها أحياناً أخرى. بعضنا يرى أن تلك الإستراتيجية منجية من الألم، أي أنها بمنزلة المُخدر الموضعي.. لا إشكال أبداً، فقد بتنا في عالمٍ تعددت فيه المسميات وتنوعت!
فتش في الحياة والناس من حولك، وأمعن فكرك؛ كم من حقائق تدور حولنا وندرك حقيقتها لكننا نغلفها بمخدر تعمداً ونُلبسها غير لباسها. أسَرَّ لي أحدهم بقصة لفتاة أمست ضحية لأخيها الكبير بالمنزل، والذي كثيراً ما كان يرفض من يتقدمون لخطبتها بحجة أنها لا تعرف مصلحتها، وأنها غير قادرة على الاختيار، فاختار لها شخصاً رأى أنه الأفضل لها، فتزوجته كارهة، بينما رغبتها كانت في الارتباط بغيره، لقد زعم أنه أعلم بمن يناسبها، وأدرى بما فيه مصلحتها، وأنه يتحاكم إلى العقل لا إلى العاطفة، هذا ما يبديه ظاهراً، لكنه أغفل الحقيقة المرة، وهي رغبته في السيطرة والتحكم، وعقدة الأخ الأكبر تقود سلوكه، ولجأ ليغلف تلك الحقيقة المرة برأي كاذب باتَ جلياً.
ولا أدل من ذلك إلا الموظف المتميز الذي يفوق أقرانه ويسبقهم، والذي ظل رغم ذلك يراوحُ مكانه في موقعه الوظيفي دون ترقية بينما يرى الآخرين الذين هم أقل منه جدية وحرصاً واهتماماً يتسابقون إلى الترقيات، ويحصلون عليها، وعندما سأل مديره عن السبب أخبره أنهم أجدر منه! لكن الموظف الفطن أدرك الحقيقة المرة، فما يعلنه المدير ويبدو كأنه تبرير وجيه للتمييز بين موظفيه ما هو إلا رأي يغطي الحقيقة المبطّنة، وهو ضعف العدالة وضعف التقييم الصحيح، وقياس الأمور بغير مقياس العدل والأحقية.. حقيقة عوجاء ترتدي غير زيها، فتبدو مقنعة لمن يقبلون التبريرات الظاهرة.
لن ينمو المجتمع ما دام يخفي الوجه الصادق ويظهر بوجه غير وجهه الصحيح، وما دامت الأمور تقاس بمقياس غير حقيقي له وجه برّاق يسلب الأنظار، ولن تزدهر الأمم إلا إذا تقبلت الحقائق كما هي حتى ولو كانت مرّة تشرق بها الحلوق، والحقائق لا تتغير حتى وإن تغيرت مسمياتها وتعددت!