عبدالرحمن الحبيب
إذا كان قادة العالم في حيرة مما يريده الرئيس الروسي بوتين، فإن فيونا هيل، من معهد بروكينغز، تزعم أنها تعرف بالضبط ما يسعى وراءه، على الأقل فيما يتعلق بأوكرانيا: بوتين «يريد طرد الولايات المتحدة من أوروبا.. كأنه يقول: مع السلامة يا أمريكا. لا تدعي الباب يضربك في طريقك للخروج» (نيويورك تايمز). هيل تعتقد أن بوتين يشعر بانحسار القوة الأمريكية، وأنها تعيش حالياً المأزق نفسه الذي كانت عليه روسيا بعد الانهيار السوفيتي: ضعفت بشكل خطير في الداخل وتتراجع في الخارج. وتتفق جيل دوجيرتي، الخبيرة بالشؤون الروسية مع رأي هيل، قائلة: «إنهم يريدون إعادة لما حدث في نهاية الحرب الباردة» (سي إن إن).
البعض يرى أن ما يجري يشبه حالة العالم في القرن التاسع عشر.. إذ يُذكر أن المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل وصفت الرئيس الروسي عام 2014 بقولها إنه «زعيم يستخدم أساليب القرن التاسع عشر في القرن الحادي والعشرين»؛ قاصدة بذلك «أن زعيم روسيا رجل حرب وقومية في عصر يفترض أن تحدده القوانين والعولمة» حسب صحيفة الفايننشال تايمز.
لكن العولمة والنظام العالمي في حالة ارتباك، وأزمة أوكرانيا هي الأكثر وضوحاً في سلسلة التوترات العالمية.. الصين تختبر الحكم الذاتي لتايوان، وتقوم بمهمات جوية عسكرية متكررة وتتوغل في البحر بالقرب من تايوان.. في الوقت نفسه، تقوم كوريا الشمالية، المنغلقة على نفسها، بتسريع وتيرة تجاربها الصاروخية.. بينما التوترات الحدودية بين الصين والهند كادت تشعل حرباً..
قبل ست سنوات تساءل تيم مارشال في كتابه «سجناء الجغرافيا» لماذا يهتم بوتين بشبه جزيرة القرم مما قد يشعل حرباً في أوكرانيا؟ لماذا كان مقدراً للولايات المتحدة أن تصبح قوة عظمى عالمية؟ لماذا تستمر القوة الصينية في التوسع؟ لماذا مصير التبت أن تفقد حكمها الذاتي في الصين؟ لماذا لن تتحد أوروبا أبدًا؟ الإجابات جغرافية حسب تيم مارشال الذي يرى أن جغرافية الأرض هي التي تشكل الحرب والسلام والقوة والسياسة والتنمية الاجتماعية للشعوب. يقول مارشال: قد تبدو التكنولوجيا قادرةً على تجاوز المسافات الطبيعية والمعنوية، لكن من السهل نسيان أن الأرض التي نعيش فوقها ونعمل ونربي أولادنا تلعب دورًا بالغ الأهمية، وأن خيارات القادة الذين يقودون المليارات السبعة ستظل محدودةً نوعًا ما بالأنهار والجبال والصحاري والبحيرات والبحار التي تطوقنا جميعًا، مثلما كانت منذ الأزل.
عصر أمريكا كقوة عظمى يخضع للاختبار بطرق جديدة في جميع أنحاء العالم، حسب وصف زاكاري وولف محرر الشؤون السياسية في سي إن إن، فالوقت محير للأمريكيين بخصوص الشؤون الدولية، حيث تبرر الحكومة من ناحية لماذا حان الوقت للانسحاب من أفغانستان، ولكن من ناحية أخرى تبرر لماذا حان الوقت للدفاع عن أوكرانيا. كما كتب ستيفن كولينسون المراسل الصحفي في البيت الأبيض أن «التحديات المتصاعدة للسلطة الأمريكية تأتي في وقت ينتشر فيه تصور واسع النطاق في الخارج بأن واشنطن ليست القوة التي كانت عليها في النصف الثاني من القرن العشرين».
قادة العالم ليسوا فقط محتارين حول ما يمكن أن يفعله بوتين، بل العالم كله - منذ سنوات - في حيرة من مسارات الأحداث غير القابلة للتوقع.. إنه زمن المفاجآت ونهاية زمن التوقعات المحسوبة.. ثم جاءت جائحة كورونا وزادت الأمر تعقيدا «كان الناس يتوقون إلى شيء مثل الاستقرار. حتى أولئك الذين قبلوا أنهم لن يستعيدوا حياتهم القديمة أبدًا أملوا في حياة جديدة طبيعية. لقد حان الوقت لمواجهة عدم القدرة على التنبؤ بالعالم. النمط المتبع في باقي هذا العقد من القرن الحادي والعشرين ليس هو الروتين المعتاد الذي كان سائداً في سنوات ما قبل تفشي المرض، بل هو الاضطراب والحيرة التي سادت حقبة الجائحة. هذا هو الوضع الطبيعي الجديد.» (مجلة الإيكونيميست).
من النادر في الذاكرة الحديثة وجود هذا المقدار من عدم اليقين حول مستقبل النظام العالمي. وذلك ليس فقط بسبب جائحة كورونا وما ألحقته من ضرر في إبطاء النشاط الاقتصادي وتأثيرها الغامض والمزدوج في العولمة؛ بل أيضاً تأثيرات الموجة الشعبوية والسياسات الاقتصادية الحمائية والانعزالية.. فما السيناريوهات المحتملة التي سينبني عليها النظام العالمي المرتقب؟ كتب البروفيسور الروسي ديميتري ايفستافيف: أن العالم يدخل حقبة يمكن أن يطلق عليها «جيواقتصاد القوة». أصبحت المرحلة الحالية من التطور العالمي مرحلة انتقالية إلى «تعدد أقطاب ائتلافي»، وهو البديل الأكثر احتمالا لظهور تعدد أقطاب عملي. إننا نشهد التصفية النهائية لـ»قواعد اللعبة» وتحول المؤسسات العالمية، السياسية والاقتصادية، إلى مؤسسات وهمية.. متوقعاً تشكيل «مناطق نفوذ» إقليمية حول مراكز قوة جديدة. على أساسها، يمكن تشكيل مناطق جيواقتصادية كاملة المعنى، مثلما يحصل في مناطق أوراسيا حيث تحاول بعض الدول مد نفوذها على أوسع نطاق ممكن (روسيا اليوم).
النظام العالمي في مرحلة عدم اليقين، لكن ذلك لا يعني بالضرورة نهاية العولمة والعودة للقوقعة الحدودية إلا مؤقتًا، فقد تداخلت مصالح دول العالم واندمجت سياسات البلدان والمؤسسات الدولية (السياسية والتجارية والصحية والغذائية والزراعية والبيئية..الخ)، ودمج الاقتصادات الوطنية في الاقتصاد العالمي.. فتكاليف إلغاء العولمة باهظة وأقرب للمستحيلة.