د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** استقلَّ المتنبي «السواقيَ» كي يبلغَ «البحر»؛ فكان في رحلةٍ من حلب سيف الدولة إلى مصر كافور، وإذ بلغها ابتدأ مرحلةً مختلفةً في حياته، أعقبها برحلة عكسيةٍ نحو الكوفة سجلَّها في قصيدته:
ألا كلُّ ماشيةِ الخيزلى
فدى كلِّ ماشيةِ الهيدبا
وتبعتها مرحلة أخرى أرهصت لتغيرٍ جديدٍ انقلب فيه الثناء إلى هجاء:
وما كان ذلك مدحًا له
ولكنه كان هجوَ الورى
فهما رحلتان في الشام مبتدأً 337» هـ» امتدت حتى رحيله منها عام 345هـ، فمُقامه بمصر: (جمادى الآخرة عام 346 حتى ذي الحجة 350هـ)، أي أنهما أربعة أعوامٍ ونصف تلت تسعة أعوامٍ ونصفًا، وهما كذلك مرحلتان؛ ولاءٌ فانكفاءٌ فاكتفاء، ومن هذا المثل العابر يتجلى الفارقُ بين الرحلة والمرحلة، والامتزاجُ بين الماديِّ والمعنويِّ، وعبر هذا الاجتزاءِ النصّي يمكنُ التمييزُ بين الثابت في القِيم والمتحولِ عنها بما يفتحُ حوارًا عريضًا حول الوسيلة والهدف، والدرب والغاية، ومِشية التُّؤدةِ الهادئةِ والخَببِ الصاخب ، ولكلٍ أن يرى نفسَه في رحلاته ومراحله.
** لندع المتنبيَّ الذي دُرس بلا مزيد، وكان أنموذجًا على تناقضِ السلوك والإبداع؛ فهو شاعرٌ عظيمٌ في إهاب إنسانٍ رديء، وإذ مضى الزمن فقد غاب الشاعرُ وحضر الشعر، ولم يبقَ من سلوكِه ما يُوصمُ به، واكتفينا بيقينٍ شبهِ إجماعيٍ أنه ساقيةُ النصِّ الجميل وبحرُه.
** كذا سيقفُ المثقفُ في محكمة التأريخِ يومًا؛ فسينفصلُ السلوكُ لدى محكمة العدل المطلق، ويبقى النتاجُ في محكمة الناس، وإذ لم يثرثر المتنبي، فكان من أقلِّ الشعراءِ قولًا، فقد رجحت كفةُ إنصافِ نتاجه، ولو مارس الحكيَ بدور الحكواتي لتاهَ شعرُهُ بدرجةٍ تشبه تيهَ مشاعرِه، واختلط البيانُ المعجزُ بالإنسان العاجزِ فقست عليه المحاكمةُ والأحكام.
** هنا يجيءُ المثقفُ القادرُ على لجم أهوائه في الحضورِ والغيابِ ضمن وعيه بمحاكمِ الناسِ وربِّ الناس كي يتزنَ ويتوازنَ في شخصِه ونصِّه، وهو ما يعني إعادةَ تعريف المثقفِ وفقَ منطق البقاء والفناء، والوفاء والإيفاء، والوصوليةِ والنقاء، والمصالح المؤقتةِ والغايات السامية.
** وهنا نفكّرُ في معاني «الثقافة»؛ فليست معلوماتيةً كما ظننَّا، ولا انتقائيةً كما عرَّفنا، ولا دوغمائيةً مغلقة، ولا ديماغوجيةً مندلقةً، وقد نراها وعيَ الذات بنفسها وبما حولها كي تُحسن التخطيطَ للرحلة والإعدادَ للمرحلة، وتستطيعَ فهمَ الثباتِ والتبدلِ بما يعطي الثباتَ دلالات الاستقرار والاستمرار، والتبدلَ صيغةَ المراجعةِ والتراجع، والإيمان بأن الوسائطَ دروبٌ متشابهةٌ قادرةٌ على نقل أصحابها من ضفةٍ إلى ضفةٍ لا يُضطرُ معها إلى تغيير اسمه ووسمه، وهُويته وانتمائه.
** صرنا بحاجةٍ إلى إعادة تعريف «المثقف والثقافة والرحلة والمرحلة والثبات والتحول» بما يتواءمُ مع المتغيرات الضخمة التي طالت الشارعَ والناديَ والمنبرَ والناشرَ والمدرجَ والمسرح بعد «خفوت» مشروعي «الحداثة» و»الصحوة»، والسعيِ الإراديِّ لاستقلاليةٍ فكريةٍ لا تنتمي لأيٍ من التيارين اللذين تحكما بالمسارِ الثقافي والاجتماعي طيلة أربعين عامًا خلتْ، وقد نحتاجُ إلى حوارٍ ينقلُنا من موقع الناعي إلى موقف الواعي.
** الحياةُ رحلةٌ ومراحل.
هامش:
** مجتزأٌ من محاضرةٍ للكاتب قُدّمت في مركز ابن صالح بعنيزة الأحد الماضي.