كتبت قبل حوالي عقدٍ ونصفٍ من الزَّمن مقالةً بعنوان «سلمان لا ينسى» أشرت فيها إلى جانبٍ مهمٍ من الجوانب التي يتميَّز بها خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وهو حرصه حفظه الله، على العناية بتاريخ المملكة وتراثها بما في ذلك إنشاء ورعاية ودعم المؤسّسَات التي تعنى بتاريخ المملكة كدارة الملك عبدالعزيز ومكتبة الملك فهد الوطنية. ولم يتوقف استيعابه للتاريخ عند حدوده التقليدية بل انعكس على نقل بعض من ملامح تلك الذاكرة إلى منطقة الرياض التي تدين له بتطوُّرها الأبرز على يديه.
واستمرارًا لتلك العناية الحاضرة الدَّائمة جاء أمر خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة 1443ه، بالإعلان عن يوم 22 فبراير يومًا سنويًا لذكرى تأسيس الدَّولة السعوديَّة، باسم يوم التَّأسيس. وقد بيَّن الأمر خلفيَّة ذلك المتمثِّلة في الاعتزاز بالجذور الراسخة للمملكة وارتباط مواطنيها الوثيق بقادتها منذ عهد الإمام محمد بن سعود رحمه الله. ويأتي ذلك الأمر اقتداءٍ بأمر الملك عبدالعزيز رحمه الله، في السابع عشر من جمادى الأولى عام 1351ه، بإعلان الأول من الميزان الموافق يوم 23 من سبتمبر اليوم الوطني لتوحيد المملكة باسم المملكة العربيَّة السعوديَّة، كما يأتي في إطار ما أشار إليه صاحب السموِّ الملكيِّ الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء في مقدمة رؤية المملكة 2030 من أن قصص النجاح تبدأ دائمًا برؤية «وأنجح الرؤى هي تلك التي تبنى على مكامن القوة». وغنيٌّ عن القول إنَّ من أبرز مكامن القوَّة للمملكة العربيَّة السعوديَّة امتدادها التَّاريخي العميق إلى أصول جذور التَّاريخ وامتداد الحضارة.
يمثَّل «يوم التأسيس» مرتكز الفخار المعتدِّ بتأسيس الدَّولة الأولى على يد الإمام محمد بن سعود منتصف عام 1139ه (1727م) متَّخذًا من الدرعيَّة عاصمةً لها. على أنَّه من المهم الإشارة إلى أن ذلك التَّاريخ لا يلغي أنَّ امتداد أهميَّة الدرعية وحكَّامها يرجع إلى قرون قبل ذلك. وقد تمكَّنت الدَّولة الأولى بثقة قياداتها وأصَّالة أُسسها من أن تكون كيانًا قويًّا امتدَّ إلى أغلب أنحاء شبه الجزيرة العربية وتولَّى حماية الحرمين الشَّريفين، وكوَّن علاقاتٍ مع أهم دول العالم، واثقًا برجاله ومقوِّماته الدينيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، تحسب له الدُّول العظمى في ذلك الوقت كلَّ حساب. وقد استطاعت الدرعيَّة أن تقاوم ببسالةٍ إحدى أكبر القوى في ذلك الوقت، والتي جنَّدت لحصار الدرعيَّة وتدميرها الجيوش تلو الجيوش حتى دكِّها بمدفعيَّة إبراهيم باشا عام 1233ه (1818م)، حاملاً إلى الأستانة حاكم الدرعية المهيب الإمام عبد الله بن سعود حيث أعدم هناك شهيدا.
يذكر بوركهاردت الذي قام برحلة الى الجزيرة العربيَّة في عام 1814م (1230ه) أنَّ الدَّولة السعوديَّة الأولى جلبت السَّلام والازدهار لنجد، وأنهت العداء المستمر وأدخلت نظامًا من العدالة المركزيَّة لتُقيم نوعًا من النِّظام السِّياسيِّ الذي ينضوي تحت لوائه المواطنون من الحضر والقبائل. كما يذكر ويليام فيسي في كتابه «الدرعيَّة والدَّولة السعوديَّة الأولى» أنَّه أقيمت في الدرعيَّة سُلطةٌ مركزيَّةٌ أبطلت الانقسامات القبليَّة والعداوات السَّابقة باسم مُثلٍ أعلى. ولعلَّ إشارة إلى المستوى الثقافي آنذاك تعطي انطباعًا كافيًا عن المستوى الحضاري للدَّولة إذ يذكر بوركهاردت مشيرًا الى الوضع العلميِّ والثقَّافي في الدرعيَّة بقوله إنَّه «ما من مخطوطةٍ في التَّاريخ والعلوم الدينيَّة، وُجِدت في مكة والمدينة أو مدن اليمن إلا وسارعت الدَّولة السعوديَّة الى شرائها وحملها الى الدرعيَّة، كما يذكر أنَّ مكتبة الإمام سعود تعدُّ في ذلك الوقت أغنى المكتبات بدون منازعٍ بالنسبة للمخطوطات العربيَّة التي تعالج موضوعاتٍ تاريخيَّة.
يعيد «يوم التَّأسيس» التَّاريخ إلى نصابه ويضع الأدوار الحقيقيَّة لصانعيه. وينبِّه يوم التَّأسيس الأجيال الحاضرة والمستقبليَّة من أبناء المملكة إلى أنَّ تاريخ أمجاد دولتهم الحاضرة يعود إلى مئاتٍ من سني القوَّة والمنَعة والعزَّة. ويتألَّق تاريخ المملكة بروعة قياداته وألق عاصمتيه الأولى: الدرعيَّة، والثَّانية الرياض. وكما الدرعيَّة، تدرَّجت مدينة الرياض في مراقي العز شيئًا فشيئا، وكانت إحدى أهم مراحل حياتها اختيار الإمام تركي بن عبد الله، رحمه الله، إيَّاها عاصمةً للدَّولة السعوديَّة الثَّانية عام 1240هـ (1824م)، ثم جاءت الاستعادة الظافرة للملك عبدالعزيز آل سعود لمدينة الرياض عام 1319هـ (1901م) ليبدأ منها توحيد معظم أنحاء الجزيرة العربيَّة حتى بلوغه المأمول بإعلان المملكة العربيَّة السعوديَّة.
يمتلئ تاريخ المملكة بأيَّامٍ وأيَّامٍ منها يوم اختيار الإمام تركي بن عبد الله الرياض عاصمة مؤذنًا بقيام الدولة السعوديَّة الثَّانية، ويوم استعادة الملك عبدالعزيز للرياض. ويبرز الاحتفاء بأيَّام الوطن جانبًا مؤكِّدًا من المعروف من اهتمام خادم الحرمين الشَّريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ودرايته التَّامة بتاريخ المملكة وتراثها، وجهوده متعدِّدة الأبعاد في الحفاظ عليهما. كما يبرز استكمال مسيرة العناية تلك على يدي سموِّ ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والمنعكسة في كثيرٍ من مشروعات العناية بالتَّاريخ السعوديِّ والحفاظ على التُّراث بجوانيه المختلفة وخاصةً العمراني. ويبدو ذلك جليًّا في مشروعات العناية بأواسط المدن وبالمساجد التاريخيَّة وفي مشروع تطوير بوابة الدرعيَّة. وستظلُّ ذكرى أيام الأمجاد نقاط توقُّفٍ سنويَّة لمزيدٍ من التأمُّل ومديدٍ من الفخر. وأجد في إطار البهجة الغامرة بيوم التأسيس الفرصة لأرى أن اسم إحدى أكبر جامعات المملكة يستحق أن يكون «جامعة المؤسِّس، الإمام محمد بن سعود».
** **
- د. زاهر بن عبدالرحمن عثمان