«الجزيرة» - المحليات:
مفهوم الدولة الحديثة city state مفهوم يوناني كلاسيكي يعود إلى ما يقرب من خمسمائة سنة قبل الميلاد. فقد كانت شبه جزيرة اليونان مشكلة من مدن عدة - دول، أبرزها: أثينا وإسبرطه ومقدونيا، وكانت كل واحدة من هذه المدن تشكل كيانًا سياسيًا مستقلاً، وربما قامت بينها الحروب والنزاعات. فالمدينة الإغريقية كناية عن دويلة صغيرة مستقلة نواتها مدينة وتتبعها القرى المجاورة لها وتحيط بها أراضي الفلاحة والريف والمراعي، وقد تحصنها الأسوار المنيعة؛ بمعنى أنها ليست مجرد تجمع عمراني، وإنما كيان يشكل وحدة سياسية تمارس حكومتها السيادة الكاملة على أراضيها وجميع الأراضي داخل حدودها.
ولو نظرنا إلى منطقة نجد ومدينة الدرعية تحديدًا التي أسسها الأمير مانع المريدي في عام 850هـ (1446م) - الجد الثاني عشر للملك عبدالعزيز - للاحظنا أنها مدينة متوسطة الحجم بمفهوم المدن تلك الأيام، ولها مركز حضري يتألف من نسبة كبيرة من السكان ومكتفية ذاتيًا من الناحية الاقتصادية لوقوعها على مفترق طرق تجارية ولكونها منطقة زراعية، نظرًا لوقوعها على وادي حنيفة، فتكثر فيها المزارع التي يفيض إنتاجها عن حاجة سكانها فيقومون بتصديرها للمدن الأخرى في منطقة نجد مثل العيينة وحريملاء وغيرهما، وتولى مانع المريدي وأبناؤه وأحفاده من بعده حكم «الدرعية» وتوفير أسباب الحماية وممارسة التجارة والسيطرة على الطرق التجارية لتأمين أسباب العيش لسكانها.
ولدولة المدينة تاريخ عريق في الجزيرة العربية، حيث كانت يثرب في بداية هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إليها مثالاً واضحًا لدولة المدينة.
وبعد الإسلام وفي عصر الخلفاء الراشدين، وبني أمية، وبني العباس، وهي دول كبيرة. وشهد القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، وما تلاه تهميشًا كاملاً للعنصر العربي، وسيطرة أعراق غير عربية على الحكم الفعلي، وكانت أغلب أجزاء الجزيرة العربية مهمشة بشكل كبير والبعض الآخر مهمش تمامًا منذ انتقال العاصمة العربية - الإسلامية من المدينة المنورة إلى الكوفة، ومن ثم إلى دمشق وعودتها إلى العراق مرة أخرى حتى انهارت الدولة على يد القائد المغولي هولاكو، فتقسمت الإمبراطورية الإسلامية إلى ممالك متعددة.
وكان حلم بناء دولة عربية في جزيرة العرب يراود بعض العقلاء، وذلك لما اعترى هذه المنطقة الجغرافية من الإهمال خلال قرون عديدة، ولسيطرة أعراق أخرى؛ أبرزها الفارسي، والتركي على مقدرات وخيرات الأرض العربية، والشعوب العربية.
وعند دراسة ظاهرة مدينة الدرعية التي أسسها مانع المريدي منتصف القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي، وما نتج بعد ذلك، يتبين لنا من معطيات عدة أنه أسس الدرعية لتكون المدينة الدولة، القابلة للتوسع مع الأيام. ونستشف من مواقف أمراء الدرعية منذ الأمير مانع أن هناك دستورًا عائليًا للحكم ركز على فكرة الدولة، وعلى العنصر العربي، وهذا ما جعل هذه المدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية. وعلى الرغم من قلة المؤرخين في منطقة نجد إلا أن أحدهم وهو المؤرخ راشد بن علي بن جريس، الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي (ت 1298هـ/ 1880م تقريبًا)، قال كلامًا مؤداه أن فكرة إنشاء دولة عربية في جزيرة العرب واضحة للأمير مانع المريدي، ولابنه ربيعة، وحفيده موسى بن ربيعة، وابن الحفيد إبراهيم بن موسى بن ربيعة الذي كان يسمى بأمير نجد، وغيرهم. ويذكر أنهم أمراء مستقلون، أي لا يتبعون لأحد، وأن في تفكير الأمير موسى بن ربيعة الاستقلال بجزيرة العرب، وفي تفكير والده، وجده، ووالد جده مانع الاستقلال بمنطقة نجد، وشرق الجزيرة العربية التي جاء منها الأمير مانع لتأسيس دولته في نجد بالمنطقة التي كان يسكنها أجداده من قبيلة بني حنيفة. ومن المعطيات الأخرى على أن الدرعية أسست لتكون المدينة الدولة ما يلي:
1 - حين نتأمل في الموقع الجغرافي لمدينة الدرعية يتضح لنا أنه موقع إستراتيجي لعاصمة دولة كبرى. فمن أبرز المقومات لذلك وقوعها على واحد من أهم الأودية في نجد وهو وادي حنيفة، عدا أنها تقع على أحد أهم الطرق التجارية القديمة، ذلك الطريق الذي تعد الدرعية في قلبه، والذي يأتي من جنوب شبه الجزيرة العربية مرورًا بنجران ثم يتجه شمالاً إلى اليمامة ثم الدرعية حيث يتجه إلى الشمال نحو دومة الجندل وإلى الشرق نحو العراق وإلى الغرب نحو الحجاز. ويعد هذا الطريق هو طريق الحاج القادم من فارس والعراق ووسط آسيا، الذين كانوا يواصلون سيرهم عبر الدرعية إلى مكة المكرمة. وازدادت أهمية هذا الطريق بعد قيام إمارة الدرعية على يد مانع المريدي الذي سعى وأبناؤه وأحفاده إلى تأمينه وخدمته. وبتأسيس الإمام محمد بن سعود للدولة السعودية الأولى أصبح هذا الطريق من أبرز الطرق التي تمر بها قوافل التجارة والحج، نتيجة لسياسة الإمام محمد بن سعود بتأمين هذا الطريق والارتباط بعلاقات مع القبائل التي يمر من خلال مناطقها، والاتفاق معها على ضبط الأمن وتقديم الخدمة اللازمة للمستفيدين منه.
2 - كان السائد في بلدات المنطقة أن تكون البلدة في بداية التأسيس خاصة بأسرة واحدة، وبعد مرور عقود من السنين تسمح هذه الأسرة الأفراد أو عوائل محددة، وبناء على اتفاق بينهم، بالانتقال إلى بلدتهم. وهذا ما لا نلاحظه في الدرعية، فمنذ نشأتها وهي موئل للعرب الآخرين، ولذلك هاجر إليها عالم من اليمن، وأقام فيها أو زارها الكثيرون من مناطق مختلفة من جزيرة العرب.
3 - كان مانع وأولاده الأمراء من بعده حريصين على حماية القوافل عامة، وقوافل الحج خاصة، وعقدوا المعاهدات مع القبائل وأمراء المدن الآخرين في منطقة نجد، وصارت لهم شهرة كبيرة في ذلك، كما كان نظام التجارة في الدرعية أكثر انفتاحًا على الآخرين وأكثر منافسة.
والمتابع لدولة المدينة «الدرعية» يلاحظ أنها تتوسع وتضيق بحسب الاستقرار السياسي فيها، وهذه الأمور والدروس والتجارب المتراكمة الطويلة فهمها الأمير الإمام محمد بن سعود، والذي بفضل الله ثم بفضل عبقريته انتقلت (دولة المدينة في الدرعية) إلى مرحلة الدولة، والتي تعارف المؤرخون على تسميتها بـ(الدولة السعودية الأولى). وكانت الدولة السعودية منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا دولة عربية صافية بحكامها وشعبها، إذ لم تطأها يد أجنبية معتدية إلا ودحرتها.